بيوتٌ لم يبقَ منها سوى ذرات التراب تحكي ما الذي جرى هنا .
شوارع يسيطر عليها الهدوء، اشجارٌ تبدِّل خضارَها الى لون غريب رافضةً بذلك أن تكون يوماً ما وجهاً للربيع.
سماءٌ باهتة بالكاد تستطيع بث لونها الأزرق على المياه لتعكسه؛ انها بقايا مدينة .
هكذا هو المنظر من نافذة غرفتنا الصغيرة.
نهضتُ من الفراش محاولةً جرَّ نفسي من حرارة أشعة الشمس التي لطالما ذكرتني بصعوبة العيش هنا .
انطلقتُ الى مكان دراستي كالعادة، مستشفىً كبير يضم طوابق عديدة وقصص مختلفة.
وصلتُ الى الطابق المنشود وكان من المفترض بنا ان نجوب أروقة الردهات كي نتعرف على الحالات الداخلة إلى المستشفى في ذلك اليوم.
اكملتُ طريقي إلى غرف المرضى، اقرأ قصص أوجاعهم الواحدة تلو الأخرى ، حتى وصلتُ إلى غرفة أحدهم.
كان المريض فيها شاباً ذا وجهٍ دائري يظهر عليه ملامح التعب وعيون شبه مفتوحة أكسبها اللون الأخضر بريقاً مميزاً.
كان طويلاً إلا أن طوله لم يكتمل في كلتا الجهتين؛ لفقدانه إحدى ساقيه وكان يرتدي ملابس حربية مرقطة وملطخة بدمائِه.
أخذت الأشعة التي صورت جمجمته، واتجهت نحو نافذة الغرفة المطلة على المدينة ،كي أستطيع استغلال الضوء النافذ من خلالها لقراءة أشعة المريض.
وما إن وضعتها على النافذة حتى رأت عيني ما لم أستطع تصديقه.
فقد أصبحت البيوت غير البيوت القديمة، الأشجار غير تلك الاشجار، والسماء كذلك، حتى نهر دجلة لم يعد كئيباً كما كان، فقد بدأت الريح تداعب سطحه الشفاف الذي امتلأ هو الآخر بلمعة ذهبية .
أزحت الأشعة جانباً وأعدت المحاولة لعلي بذلك أعود إلى رشدي، لكن عيني أبت أن ترى غير ذلك.
كانت أشعته مميزة بشظايا معدنية، كانت مؤلمة، كيف للألم أن يأتي بمثل هذه الحياة ؟! تساءلت في نفسي دون إجابة
بدأت أصابعي ترتجف وشعرت بصعوبة في التنفس، استجمعت قواي وأدرت وجهي نحو المريض، الذي شعرَ بوجودي في الغرفة
نظرت إليه نظرة امتنان ممزوجة بكل آلامه، وهو الآخر نظر إليّ مودعاً حياته القاسية، مودعاً جروحه العميقة, تاركاً لأهله قبراً يبكون عليه، قبراً يحمل عنوان "شهيد"
وتاركاً لنا نافذةً نرى من خلالها العالم بشكل أجمل .

 

الدكتورة نور علي / مركز الحوراء زينب عليها السلام