وضوح الحق في قلبي منعني قبل يومي هذا من التصريح بما كنت أظنه من مسلمات هذا العصر .. ولعل كثرة ما مررنا به سابقا من ظروف قاسية منحتنا من الجلادة والصبر والإيمان ؛ ما يكفي لتحمل وجع آخر وان كان هذه المرة اظهر وامض . ألا إني سمعت مؤخرا ما تتفوه به ألسنة المضللين للناس وتتطاول به زورا وبهتانا لا لشيء إلا لبخس الشجعان حقهم والعلماء وعلى رأسهم سيدنا ومرجعنا السيد السيستاني وما مثلوه من إسلامنا الحق بفضلهم , فارتأيت أن أسجل شهادتي هنا : (في صبيحة يوم حزيراني معتدل لعام 2014، كان ثمة هدوء وهمس حولنا في كل مكان، في العمل، في الطريق، بين الأهل والأصدقاء .. الحديث عن الإرهاب لم يكن جديدا ، فلقد مرت السنون الأخيرة ممتلئة بالآهات والدموع ودماء الأبرياء التي صبغت الجدران والأرصفة، ألا إن ما اختلف هذه المرة إن الناس تتكلم بهمس، لم الهمس؟ لم أكن افهم.. وتضارب الكلام بين البيانات الرسمية وما يتناقله الناس بل وما عجت به طرق التواصل الاجتماعي بين تأكيد وتكذيب وتهويل تارة عن سقوط الموصل وأخرى عن الإرهاب يجوب شوارع سامراء ثم مذبحة سبايكر ثم توالت الأخبار كشريط النشرة الإخبارية ينقل سقوط المدن والمناطق تباعا وكأن تنين نار يلتهم الأرض والناس معا، لدرجة توحي بالتندر ثم البكاء فالصمت المر.. لم تمض الأربع والعشرين ساعة إلا وأخبار عن وصول داعش تلك الماكنة التي ما فتئ الإعلام العالمي عن تضخيمها وإظهار دمويتها، لتكسر ما تبقى من عزيمة لدى العراقيين.

ولا أنسى ثلاث مواقف حدثت في يومي ذاك كان أولها وصولي لمحل العمل وأنا أرى الموظفات حولي قد خُطفت ألوانهن في حين ظهرت كلمات شماتة واستبشار من البعض ظنا منهم إنها مسالة سياسية تستهدف مذهبا دون غيره فلم يمض كثيرا حتى اكتووا بنارها. ومما أفزعني انهيار إحداهن بالبكاء وهي تصرخ لا أريد الموت بيد داعش ولا أن أسبى ولا أن .......

مرت لحظات مثقلة بالصمت تكاد أن تنزف فيها أرواحنا هلعا، لم املك في نهايتها إلا أن سحبتها على جانب واحتضنتها ومسحت تلك الدموع وأنا ابتسم وأقول لها ان سقوط بغداد أمرا مستحيل واسر في أذنها كلاما همسا إن ثمة آلاف الرجال قد حلقوا إلى أسوار بغداد للدفاع عنها واقسم لها إنهم يرددون أنهم سيأكلون الدواعش بأسنانهم فالقضية قضية وطن وقبله الدين . فما كان منها إلا ان قالت نعم لقد رأيت تجمعات الشباب في طريقي فقلت لها هو ذاك ما يشغلهم لكنهم ينتشرون بزي مدني فسكتت عن النطق. لم يكن ما قلته من وحي خيالي فهو الأمر الثاني الذي سمعته ليلة خروجي للعمل وأنا أنصت لشباب منطقتنا وهم يجتمعون ليلا ويقسمون أنفسهم إلى مجموعات ويتبادلون ما يمكن حمله للدفاع بعزم، أيضا ما كنت اسمعه من اتصالاتهم الهاتفية وهم يطمأنون على أطراف أخرى من بغداد وفيما ذهب إخوتي للتسجيل هنا وهناك وجدتني أحاول أن اجمع كل ما ادخرنا لتحصيل سلاح للبيت . وبقي عزم الرجال هو الساتر الوحيد الذي كان يقف حائلا بعد رعاية الله. أما الأمر الثالث فهو استعداد الكثير من الأسر للخروج إلى محافظات ابعد وأكثر آمنا نحو الجنوب وكأن النزوح موجة محيط عارمة تمتد لتضرب المدن وتجتازها إلى أخرى.. لم يكن الأمر منطقيا أبدا لأفكر به كأنثى وصرت استرجع في ذاكرتي كل من اعرفهم علي أجد من يرتب لي أفكاري ومشاعري فهذا يحدثني عن مجازر داعش في الأماكن الساقطة وهذا يقف صامدا لكنه لا يعرف بعد ما الحل، وهذا يشكو لي قبل أن أشكو له وآخر يوصينا بالدعاء والتجلد والاستعداد للدفاع عن النفس وسط هذه الفوضى قال احدهم إن جموعا بدأت تصعد من الجنوب إلى بغداد فسقوط بغداد كان يعني سقوط العراق ورغم إن الأمر حينها كان يعني العشرات وربما المئات إلا إن الأمر تكرر ثمة مئات رابطوا على الطريق الجنوبي الذي يربط بغداد بالجنوب ولعل خاصرة بغداد كانت خاصرة كربلاء أيضا وهذا ما يجعلها في خطر عظيم وثمة أخر لم أحصله إلا بعد محاولات عديدة ليزيح بعض الغشاوة عن عيني لقد صعد عشرات الرجال إلى خارج بغداد شمالا في محاولة للوصول إلى سامراء وحمايتها فانقطع بهم الطريق في بلد ومن بلد سمعت التالي.. داعش جبناء كان يصرخ في الهاتف إنهم جبناء ها هي المساحات الشاسعة لا احد فيها إلا سيارات محترقة هنا وهناك ثمة مغرر بهم لا يفقهون ما يحدث ويصور الأمر لهم كأنه انقلاب حكومي لا غير لذلك أوصدت الناس أبوابهم وجلست لا تعبئ بهؤلاء المتشددين الذين يجوبون الشوارع باسم الدولة الإسلامية فمن منا لا يرغب بالإسلام، وفي الوقت الذي تصدى العشرات للمئات المضللة اختنق قلبي، رباه أي محنة نحن فيها وأي ضباب يعتم على المشهد وأي لعبة قذرة تحاك وتكاد تنجح في قتل وطن بأكمله.. إلى تلك الساعة كانت الأنباء تتضارب والقنوات التلفزيونية كلا يغني على ليلاه فبعض يستبشر بالتحرير وأخر يشمت وأخر يستنهض وأخر يقول أنها الطائفية من جديد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى فقد بدأت صور ضحايا سبايكر تنقلها القنوات العالمية فيما بدأت شوارع بغداد تفرغ شيئا فشيئا وسط إشاعات مغرضة بسقوطها فيما ينفي الرجال ممن نتصل بهم ذلك.. برزت النجف حينها كقلب العراق النابض حين خفت النبض في بغداد إزاء عجز حكومي عن تدارك الموقف فقد اتصل الليل بالنهار لمتابعة كل مجريات الساحة وتحرك المؤمنون من ليلتها في محاولة لتأمين المقدسات حتى أصبح الصبح بإعلان الفتوى عن المرجع الأعلى السيد السيستاني ليعري داعش من ادعاء الإسلام بل وليعلن إن الإسلام سيتصدى بعقيدته وليحفظ وطنا لم تستطع الحكومات المحلية ولا العالمية إنقاذه، وفيما كنا قد رفعنا صوت التلفاز عاليا كانت البيوت المحيطة تفعل ذات الشيء فكنا نسمع معا (على كل من يستطيع حمل السلاح......) وتنفسنا الصعداء إذ انتقل البث خلال فترة قليلة ليصور خروج الرجال تلبية للفتوى وامتلاء الشاحنات تباعا بصدور عارية بعضهم بسلاحه وبعضهم بلا سلاح وبعضهم بحقيبة صغيرة بملابسه وبعضهم بلا حقيبة وبعضهم يصعد بأمواله وبعضهم حضر ولا مال له، لم أتذوق طعما من الكرامة والعز كما كانت تلك اللحظات وصرت أرسل الخبر لمن لم يلتفت واخص من كان خارجا للمرابطة فاسمع كلمات الشكر لله بل وكآني أراها تصعد إلى السماء بألوان زاهية ملؤها العزم والزهو. والتحم الحشد مع الجيش والجزء مع الكل وانطلقت الجموع لتسترجع الأرض والعرض فيما ظلت خفافيش الظلام من سياسيين وإعلام مأجور وقنوات فتنة تستقتل لحرف الحقيقة عن مسارها بشتى الوسائل ولكن هيهات هيهات لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وها نحن اليوم مصطفين خلف مرجعنا المفدى الذي حفظ لنا معنى الإسلام ابيضا ناصعا فضلا عن أرضنا وعرضنا مرفوعين الرؤوس رغم فقد الأعزاء وإصابة الأحباء نشد الجراحات ونسعى لجمع أيتامهم فقد بنوا لنا تراثا خالدا من العز والكرامة ما يجعلنا نفخر بهم ابد الدهر فإليهم والى كل روح شاركت بقتال أو دعم أو دعاء سواء بقيت في الأرض أو أصبحت من أهل السماء أعلن امتناني .

 

لبنى مجيد حسين