غريبة تلك الصدفة التي جمعتني به ، لم أكن أستوعب وقتها أن الرؤيا تتحقق وأن الله يجمعنا بعوالم أخرى لنلتقي في عالمنا المادي وكأننا على معرفة سابقة بل واتصال روحي .

ذلك اليوم الذي بدا غير مألوفاً منذ ساعة الصباح الأولى ؛ استيقظت بانشراح وفرحة تدغدغ قلبي وكأني على موعد مع السعادة ، فغالباً ما يجعلنا الشعور بالرضا ان نستمتع بكل شيء حولنا ونتأمل قيمة الأشياء بمعناها الحقيقي ؛ وربما يدفعنا ذلك للإحساس بالاكتفاء فنكف عن الانتظار ! وعندها تمنحنا الحياة ما يفوق توقعاتنا .

عملي كطبيبة يجعلني أصادف حالات إنسانية كثيرة فأتفاعل معها ليزداد بذلك حسي التفاعلي تجاه أي موقف أو أي حالة تلامس الوجدان  .

ذلك اليوم وبعد فترة طويلة من العمل المثقل بلذة التعب وبعد أن تهيأت لمغادرة المستشفى وعند ممر الخروج عصف لقائنا الأول ، والأصح لقائي به الأول لأنه كان غائب عن الوعي تماماً ... ينزف بشدة ويحتاج إلى تدخل جراحي سريع ؛ في تلك اللحظة كنت تلقائية ومبادرة ؛ وجريئة على غير عادتي ! لم أفكر بأن ثمة أطباء غيري يمكنهم إسعافه .

قررت الدخول إلى صالة العمليات مع زميلي الجراح الذي لطالما تهربت من تواجدي معه في العمليات لأنه يصفني بذات الحس المرهف وأني طبيبة غير مؤهلة للجراحة بسبب تعاطفي الشديد مع الحالات المرضية ، وقد اثبت في ساعات إجراء العملية إني جراحة ماهرة بقلب رحيم لأني كنت طبيب مساعد في عملية بتر ذراع من المرفق ومع أن ذلك كان قاسياً وموجعاً لكنه أنقذ حياته وهو أكثر ما كان يثير اهتمامي وقتها ، كون ذلك سيبقيه حيا لتتحقق رؤيتي وأحصل على الزهرة الوردية التي وضعها في أحضاني ورحل مبتسماً  !

لا أعلم أن كان تفكيري أنانياً أو غير منطقي ، لكن هذا بالضبط ما شعرت به تجاه بطلي الغامض ، كان هو ذاته بطل حلمي الجميل الذي لم يفارق أخيلتي يوماً ، كيف تغيب ملامحه عن ذاكرتي وكأني رسمت صورته على جدار قلبي واحتفظت بها لأحفظ تفاصيلها .

لم انتظر طويلا ولم يستمر لقاءً من طرف واحد ... وهذه المرة قطعاً لم تكن صدفة فأنا أتابع حالته الصحية ، ومن الطبيعي أن تجمعني الفرص بلقائه ... ما أدهشني فعلاً وعمّق إحساسي بأنه قدري ؛ هو حديثه معي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد ! ربما قبل أن أعرف نفسي !

تزوجنا بعد شفاءه بمدة وبعد أن واجهت اعتراض شديد من الأهل بسبب وضعه الصحي والنفسي وهو بيساره فقط دون يمينه ، لكني كنت متمسكة به ؛ كيف لا وأنا كنت انتظره ليحيا من أجلي و بالرغم من علمي بنية التحاقه مجدداً وأن رغبته الملحة في العودة الى ساحات القتال ربما تفقده تعلقه بي إذا قابلته برفض أو أثنيت عزيمته ! لذلك لم اعترض أبداً وخصوصاً بعد أن طمأنني بأنه لن يقاتل فوضعه لا يسمح بالقتال لكن دوره القيادي في وضع الخطط وتوجيه الجنود سيكون له تأثير محفز ومؤثر في نفوسهم .

عاد مفتخراً بذراعه المفردة بروح تنبض بالأمل لتحقيق النصر ، وحينما يعود لي يجدني يمينه ، حتى أيقظ في داخلي روح أخرى .

ـــ       أتعلمين يا زهرتي الوردية ؛ بأني منذ أن شعرت بك وأنتِ تبرعمين في أحشائي وتثيرين بحركاتكِ الضعيفة إحساسي القوي بالأمومة ، وأنا أقص لكِ يومياِ حكايتي مع والدك ، وأطلب من الله في كل لحظة أن لا يغادرني بعد أن تفترش أحضاني بكِ ، لأن ابتسامته الراحلة في تلك الرؤيا ما زالت تسكن ذاكرتي الحالمة .

 

ايمان كاظم الحجيمي