الشهداء ملائكة تسكن الارض لبرهة ، ثم تغادرنا لتسيح في جنان الله .

من الصعب أن يعرف أحدنا ما خلف تلك الأجساد الدنيوية التي حملها أولئك الأبطال ؛ أنها الأرواح الملكوتية التي تزورنا أطيافا سريعة الذهاب ، تحل بيننا قليلا ، وسرعان ما يحل موعد الرحيل ، فالملائكة لا تحتمل عالمنا الدنيوي هذا كثيرا .

هكذا كان حال أبن مدينتي الحاج محمد جليل الصالحي ، الذي كان يرتاد المسجد ـــ منذ صغره ـــ ليمسك السماعة لإمام المسجد الى أن قرر ان يلتحق بالدراسة الحوزوية الشريفة متحدياً كل إغراءات الدنيا التي طلقها ثلاثاً كأمامه علي عليه السلام ،  ليعود فيما بعد لمدينته ( الزبير ) لشدة احتياجها له وشوقها اليه

أكرمه الله ؛ فيما بعد لزيارة بيته حاجاً معتمراً كأنه أراد لتلك الروح الطاهرة ان تتكامل قبل العروج ، فرزق الحج شابا وهو في العشرين من عمره المبارك .

لم تكن سوى تسعة وعشرين سنة ، تلك التي منحها الله له ولم يشأ له ان يتعداها ، الا أنه عُرف خلالها بطيب الأخلاق ودماثتها .. شهادة شهدها له كل من عاش معه او عرفه و لو على نحو لقاء .

كان كثيراً ما يتشح هذا الوجود النوراني بالسواد في كل ذكرى شهادة لكريم من آل البيت عليهم السلام ؛ ليمتزج مع روحه حباً وولاء وعشقاً وفداء ؛ فهو لم ينل من هذه الفانية شيئا ماديا ، فكان زاهداً عابداً متعففاً عن الدنيا وملذاتها .

هكذا عاش ولم يدرك أحدا سبب هذا التوفيق ؛ بيد انه بلا ريب  طريق الحسين عليه السلام ؛ أنها أجواء الأربعين التي كان لا يفارقها أبداً حتى كشف له الغطاء ذات يوم ، ليرى منظراً عجيباً وهو أمام ساتر العدو ليضج صارخاً وعيناه تلمعان :

ـــ  ارى خيام تحترق ! وامرأة واقفة  ، ارى الامام الحسين عليه السلام من بعيد , ارى صورة الطف  كاملة أمامي !!! 

علم رفاق دربه وشركائه عقيدته ؛ أن بينهم شخصاً مميزاً وروحا سامية ووجودا مقدس .

نعم ... كان  من الرجال المؤمنين ، فلا غيره أمام لصلاة الجماعة في ارض المعركة , كما انه كان يلقى على المجاهدين دروس الفقه وحديث الجهاد والشهادة وفضل المجاهدين ، فكانت كلماته تشد العزم وتشحذ الهمم .

قال لهم ذات يوم :

ـــ  كم أتمنى الشهادة ؟! .

ـــ   عمرك طويل يا حاج .

وبتلك الابتسامة المعتادة ، مع سر أخفاه وأطلق له آهة حرى :

ـــ   أبروني الذمة ، فلن أبقى معكم سوى هذه الليلة ، ولكم علي بأن لا أنساكم أبداً .

وبنبرة حزن أختلط بألم خشية الفراق ؛ خاطبه احد المجاهدين :

ـــ   لن ندعك تصعد الى النقطة غداً أبدا ، ودعنا نرى هل ستستشهد أم لا ؟ لماذا يا حاج تريد ان تتركنا بهذه السرعة ؟؟؟!!! .

اطل الصباح ، ويا له من صباح ، قدمنا فيه أول قربان ؛ " جهاد " رفيقنا الجهادي , لم يكن أمر السرية ليأذّن  له بالخروج لوﻻ كثرة توسله وإلحاحه ، ولكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها ؛ إذ اخرج الشيخ الحاج " محمد " محفظته وخاتمه وبعض الأوراق ليعطيها الى الآمر ؛ وقال له :

ـــ   احتفظ بها ؛ فلن أرجع هذه المرة ؛ وسلمها  الى أهلي او احد أصدقائي .

لنزفه بتلك الخطوات الجهادية الى سوح الفداء والإباء ، وتحت لواء " علي الاكبر " كان العطاء .

لم يكن جهادا عادياً ، بل كان جهاد اليد ، وجهاد الكلمة والموقف ؛ ولم تكن تلك العبوة التي انفجرت ليلتها إلا بوابة اجتازها موكب الأبطال ومنهم الشيخ الحاج مع خيرة من المجاهدين بعروجهم الى الملكوت ، تاركاً أبناءه الثلاثة ؛ صادق ورقية وسكينة ، وديعة رب رؤوف وقلب زينبية عرفت الحقيقة وأدركت التكليف ، فكل شيء فيه كان يقول : " لا مكان لي بينكم " ، لأن حياته لم تكن سوى رحله الى المعشوق أهدى سنيها لأرضٍ احتضنت سبط خير الأنبياء ، لوطن رمز سماءه الصفاء .

وهناك كان الحسين في استقبال موكب الأبطال ، موكب الشهادة ، ولسان حال شهدينا يقول :

ـــ   " اعتدت أليك المسير ، وها قد نلت حلمي الاخير ، فما احلى هذا المصير " .

 رقيه محمد جليل