أبصرت عينيه أحداث البلد وأحواله ، لم يعر لتلك الأحداث اهتماما ، مقتنعاً بخصوصية اهل الشأن في تداولها ، وإن الخوض فيها مع الآخرين كطابخ الحصى ، لا يجن من نقاشها الا هدر الوقت وثرثرة الجدال .

تخلى "ناصر" مرغماً عن مسيرة الدراسة التي أجبرتها ظروف أسرته المعيشية على التوقف عند عتبة المرحلة المتوسطة ، فتحولت الأولوية عنده نحو تدبير مصروف اليوم لا لضمان الغد ، بل لضمان اليوم ، فشمّر عن ساعديه وراح في الكد مواظباً وللرزق طالباً ، فما يقبض من أجر اليوم يُؤمّن كمصروف لليوم التالي لعائلته بأجمعها ؛ بعد أن يُسلّم (جل) أجره لوالده العجوز .

أستقر الحال به عاملاً في ميدان البناء ، فباب الحصول على التوظيف الحكومي قد أوصدت أمامه ! ليس لتخليه عن الدراسة فحسب، بل زادته يأساً ؛ رؤيته لأعداد غير قليلة من حملة الشهادات العاطلين، وقد أتعبهم  عناء البحث عنها .

رجع "ناصر" الى البيت وقد حملت يديه من المؤن من بسيط ما يُشترى ، وبعد ان سلّم ما كسب من عرق جبينه لوالده المقعد ، كما جرت عادته ، وقبل نيله قسط الراحة ، بل قبل ان يرتشف شربة ماء باردة ، لمحت عينه شاشة التلفاز المركونة في احد أركان غرفتهم الوحيدة ، تُظهر كلمة "عاجل"وقد كتبت باللون الأحمر !

قرأها بتمعن ، ثم استمع لمن يُذيع الكلام ، فتبين ان في الأمر حدثاً يجبر المرء على استماعه .

فهم صاحب القصة ان جوهر القضية هو نداء المرجع الأعلى لـ " الجهاد الكفائي "، فالبلد بحاجة الى الغيارى من أبنائه لصد الهجمة البربرية الداعشية ، فما كان منه الا تلبية النداء جواباً .

أنساه إصراره بتلبية ذلك النداء ؛ على إدراك ان الذي يتكلم معه هو مُذيع الأخبار من خلال شاشة التلفاز ، ولا يسمعه مهما صرخ ونادى ، فراح يهتف " لبيك .. لبيك " .

أسرع في نفس اليوم الى التسجيل في إحدى مراكز التطوع التي فُتحت على عجل ، بعد ان اشترى ورقة "100 دولار" بسعر يفوق سعرها بكثير على ان يسددها بعد شهر ، ليشتري بها الملابس الخاصة بالتحاقه ، أُلحق على الفور لإحدى مناطق التماس مع العدو ، بعد ساعات من التدريب فقط ، وهي غير كافية إطلاقاً ، نظراً لحاجة الموقف الميداني الماسة والعاجلة الى  عديد المقاتلين .

أنطلق برحلة لم تدم اكثر من نصف نهار, وصل برفقة زملاء له الى الموقع الذي يقابل خطوط الأعداء بصورة مباشرة ، وبدأ يدخل في أجواء الواقع رويداً رويداً . 

الرصاص المنهمر لا يكاد يتوقف أزيزه ؛ بل لا يفتر ، تتخلله أصوات انفجارات لعمليات حربية مختلفة لكلا الجانبين ، شعر ببعض التوتر ـــ وهي حالة نفسية معتادة ـــ وسرعان ما تبدده منه بعد مشاهدته اقتحام زملائه لمواقع الأعداء المتحصنين داخل المباني السكنية المهجورة ، ارتفعت معنوياته كثيراً وهو يسمع صيحات التكبير والانتخاء بشجاعة أشجع العرب الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، بقتال ضار ومطاردات لهم من بيت الى بيت ، ومن شارع الى شارع ، فلم يجد نفسه الا في الطليعة سباقاً لضرب رقاب دواعش عاثوا في الارض فسادا ما أوسعه ، وبجرائم الأسلاف في يوم المدينة والجمل ما أشبهه .

أوكلت اليه ـــ برفقة زملاء له ـــ مهمة التسلل لأحد المباني والتمترس داخله كأجراء معتاد في سياقات الحروب حالياً ، فقد حان وقت التوقف لنيل الراحة والتقاط الأنفاس ، حيث لا يمكن للقطعات التمدد داخله نحو العمق الا لمسافة تحددها امور عسكرية يتوجب مراعاتها ، منها أهمية بقاء خطوط التواصل والامداد مؤمّنة، دخل ناصر الى مبنى كان لاحد أوكار "الدواعش" بعد ان تركوه هاربين .

ورُبّ صادق من قال : الحذر غلب القدر ، فـ " الحذر والحيطة من مكائد الأعداء " من أهم توصيات القادة لأبنائهم المقاتلين في الجبهات حفاظا على أرواحهم ، ولكن من المُقدسات عند المسلمين "من اتباع آل البيت تحديداً" ان حدثت امام المرء ؛ فان ردة الفعل منه تجاه ذلك الحدث تدفعه نحو التصرف بتلقائية لا شعورية إكراماً لتلك المقدسات ، ضارباً محاذير سلامة المقاتل عرض الحائط ، فما شاهد ناصر من الهول العظيم لا يمس بدنه ، ولا شخصه ، بل ما هو أشد مضاضة، فما ان دخل الموقع حتى رمقت عينه المصحف الشريف في مكان بارز موضوع على طاولة ، وقد وضعوا ـــ لعن الله من فعلها  ـــ عليه ما يخدش قداسته .

في أي شيء يستحق التضحية في هذه المعادلة ؟ صون كرامة المصحف ؟ أم الالتزام بمعايير سلامة المقاتل ؟

المسلم الغيور" وهو الواقف على سواتر القتال تحديدا ً " لا يملك نفسه أمام تلك الحالات ، لم يكن يعلم ان خسة هؤلاء الطواغيت تصل لحد هذا التجاوز المشين ، وهو بذلك قد أصاب من الحقيقة عينها ، ومن مبدأ الفداء للدين ، فجعل المحذور مباحاً ، فما ان رفع الـ  " ... " حتى دوى صوت انفجار تطايرت معه كل محتويات المكان مُدمرةً .

فحقيقة ما حصل لـ "الشهيد" هو فخ ومكيدة لخلف من مزق القرآن حين قرأه ، ومن حمل المصاحف على السنان يوم أرادوا الخديعة ، ومن دس في العسل السم لعلماء الأمة وأئمتها ، فتحقيق المكاسب في القتل والتدمير والاستئثار بالسلطة بالنسبة لهم أهم من قيم الإسلام وحرماته ، وما واقعة هذا البطل معهم الا تأكيداً لذلك ، فامتزجت أشلاء "ناصر" بأوراق المصحف الشريف التي مزقها التفجير الماكر.

 مُلخص بسيط عن موضوع القصة...السلام عليكم ورحمة الله..

عامر اليساري