رسائل بعطر الجهاد ، وأحاديث عن بطولات أصبحت أساطير خالدة ، صور أشخاص رسمت بملامحها قصة وطن ، أرواح ما زالت تسمو على ضفاف النصر ، أسر تروي بفخر قصص أبطالها ؛ تحشد ألامها وتنزف الصبر وجعاً على فراق الأحبة .

وفي أروقة السعداء كان لنا وقفة على عتبة أحد الشهداء ...

منزل شيد بالحب منذ الحجر الأول ؛ وزهور أشرقت ألوانها بعد أن بذرتها أنامل بطلنا جهاد الذي كان له من أسمه نصيب وألف ألف معنى ..

وجوه خاشعة لقضاء الله ؛ استقبلتني بكرم الضيافة ؛ لتروي بحروف العشق الحسيني رحلة السفر إلى الخلود ..

زوجة جهاد ؛ بدأت حديثها بدمعة أغرقتني في بحر حزنها ؛ وسرعان ما تداركت دموعها ليطيب حديثها عن الرجل الذي أختصر لها أجمل المشاعر التي يمكن للمرء أن يحيا بها ، حيث كان لها " أباً وأخاً وصديق بروح طفل محبوب " .. هكذا وصفته وبمنتهى العفوية ..

شعرت أنها لا تسعى لتأنق كلماتها أو تلبسها زي الرسمية ؛ وإنما كانت تنساب منها كينبوع ماء عذب ؛ لدرجة أنها تغمض عينيها بين جملة وأخرى وكأنها تسافر بذاكرتها لتحتضن جهاد أو ربما لتُطمئن نفسها أنها ما زالت على قيد الذكريات ! تصون تلك اللحظات من لظى النسيان ! فهي بكل بساطة لا تريد أن تنسى !!! وعبرت عن ذلك بجملة وجدتها غريبة وعميقة في ذات الوقت !!!

" جهاد حي .. واثقة بأن روحه تحرسنا وتظلل علينا وتحنو على جراحنا التي أدماها الفقد " .

لم أفهم كلامها كما تعنيه بقناعتها ؛ فلغتها مميزة وغريبة وكأني أجالس أديبة ومفكرة ؛ أحسبها تقمصت شخصيته بكل تفاصيلها القيادية والحكيمة ، وفي ذروة الحديث وعند لحظة استغراقي بدوامة الذكريات التي تنقلني بين حزن آني وبين سعادة الماضي أشرقت على محياي " فراشة ملونة " .

طفلة بعمر الزهور ؛ جدلت شعرها ضفائر ذهبية يرتسم على وجهها جمال ملائكي مع كثير من البراءة ؛ تحمل بكفيها الصغيرتين كأس عصير تقدمه لي بمنتهى اللياقة والذوق ، فما كان مني إلا أن أبتسم ابتسامة ملؤها الإعجاب والافتتان بهذه الدمية المتحركة كما لقبتها قبل أن أعرف أسمها !

ـــ  ما أسمك يا حلوتي ؟

بصوت ناعم وبنظرة ساحرة .

ـــ  " فاطمة " .

ـــ  عاشت الأسماء .. وماما ما أسمها ؟

حياء مبالغ به ونظرات استفسار عبرت عنها بلغة عيون يبنها وبين والدتها ؛ أفهمتني سريعاً بأنها لا تعلن عن أسم والدتها أمام غريب ولذلك تداركت سؤالي بأخر .

ـــ  ما أسم بابا ؟

ـــ  أبا فاطمة .

ـــ  نعم حبيبتي هذه كنيته .. أنا أسألك عن أسمه ؟

ـــ  بابا هكذا يحب أن ينادى .. كان يقول دائماً " لو خيروني أن أختار أسمي لاخترت " أبا فاطمة " ؛ ولو رزقت بعشرة أولاد غير حسن وحسام سأبقى " أبا فاطمة "  .

عبرت بي هذه الطفلة ـــ الصغيرة بسنها الكبيرة بعقلها ـــ مسافات شاسعة لما وراء المعنى ، وكأنها تفسر نوعية العلاقة التي كانت تجمعها بأبيها ، ولذلك تجرأت بإيعاز من والدتها لسؤالها .

ـــ  أين بابا الآن ؟

ـــ  موجود ..

نظرتُ لوالدتها باستغراب ؛ لعلي أسئت فهم إيعازها ولكنها أشارت علي بالمتابعة .

ـــ  أين بابا يا فاطمة ؟

ـــ  " هنا " .. وهي تضع كفها الصغير على قلبها الكبير ، فابتسمت وسرقت ابتسامتي دمعة حاولتُ إخفاءها دون جدوى .

ـــ  نعم حبيبتي وهو كذلك وسيظل حيا تخفق روحه مع نبضك .. أسعدك الله .

أنهت هذه اللحظة الاستثنائية جملة والدتها القاطعة للغة القلوب ...

ـــ  " لو تحدثت عن جهاد مع فاطمة لن تكملي الحديث لسنين " !!!

ـــ  وهل لهذا تفسير يا أم فاطمة غير أن الحديث معها لا يمل ؟

ـــ  نعم .. له تفسير ، لأن جهاد قبــــــــــــل أن يستشهد تحدث معها عن خمسة وثلاثيــــــــــن سنة قضاها في الحياة وعن عشرين سنة مستقبلية ، منهج لها فيهـــــــــا السبيل الذي يتمنى أن يراها عليه ولو كانــــــــــــت روحه في السماء .

ـــ  جميل جداً ..

هكذا أجبتها تحديداً ولكن ... ؟ ولكن في الحقيقة ، كلماتها عصفت على عقلي وقلبي بذات الشدة لتبعثر تركيزي وتنسيني ما جئت من أجله وهو توثيق قصص الشهداء ، ورحت أتمعن بــ " جهاد " الشهيد الذي يبدو أنه فعلاً مازال حي بينهم .

ايمان كاظم الحجيمي