كعادتي في كل مرة أخرج حاملة تقصيري وعجزي ! فلم يكن بسيطاً كما ظننته بل مزيجا فنيا توشجت جزيئاته بمعاني الإيثار ...

ذلك المنزل وتلك المرأة التي لم يغب طيف وجهها عن مخيلتي !!!

كيف جلست قربي بكل هدوء .. لم تنبس ببنت شفة ولم تظهر جزعاً او ندما ، أمعنت النظر في عينيها مراراً وتكراراً ؛ فلم أرى إلا بقايا ذرات ألم مصهورة بالرضا ، وكأنها لا تحمل ما تهاوت الروح لثقله .

حاولت عند هذا المشهد أن اكسر قيود حيرتي .. فتجرأت وسألتها عن أحوالها ؛ فلم تجبني الا بكلمة ...

ـــ " الحمد لله " .

فأردفتُ منفعلة ...

ـــ " أ لم تعارضيه ؟ أ لم تمانعي التحاقه بالموت ؟! " .

أجابتني بصوت قنوع انسجم  مع صوت القرآن الذي ملأ فضاء منزلها ...

ـــ " نعم ؛ كنت أخشى عليه الموت .. لكنني لم أمانعه ، هو زوجي ورفيق لحظات سعادتي وحزني ، عشت معه ( 25 ) عاماً " .

قاطعت كلامها مستهجنة هذا الهدوء الذي يتملكها منذ دخولنا ...

ـــ " إذاً .. أنى لكِ هذا السكون والرضا ؟ أ لم تحبيه ؟ أ لم تتألمي لفراقه ؟ أم أنكِ لا تفتقدينه ؟ ، أ لم ......؟؟ "

صَمتُ حين رأيت دموعها امتزجت بنظرات العتاب ، فلم أقصد إيذائها ، وجل ما أردتهُ أن أفهم فقط ، كيف لزوجة أن تزج زوجها للموت وهي قانعة راضية ؟! .

وضعت يدي على كتفها ؛ أربت عليه وأواسيها معتذرة ، فتركتني جالسة أسيرة ندمي ؛ ونهضت تطمئن على ولدها في الغرفة المجاورة قبل ذهابه الى المدرسة ، ثم عادت ترحب بي بابتسامة طيبة، وهكذا دواليك كل بضع دقائق معللة أن لديه امتحان صعب اليوم ! .

وفي أحدى المرات عادت تحمل شيئاً داكن اللون ! تشد عليه بقوة كأنها تخشى فقدانه !

ـــ ترى ما أهمية ذلك السر القابع بين يديها ؟ بهذه الكلمات تمتمت روحي ، وما هي إلا لحظات معدودة حتى جلست تهدم أسوار حيرتي قائلة ...

ـــ انظري .. هذا ما كان يحمله في جيبه عند استشهاده .

قالت ذلك ، وهي توصيني أن أمسكه برفق قبل أن تفلت يدها ! .

لم أكن أعرف أهمية ما استأمنتني عليه ، فسابقت النظر لأفهم سر تعلقها بهذه الأوراق المهترئة والمتصبغة ؛ فضلاً عن الثقب الذي توسطها ، فإذا بها ورقة تحمل نص فتوى الجهاد المقدس وآية الكرسي وبعض نقود ، تعفرت جميعها بدمائه ! .

فتحتُ طياتها لأراها وأتشرف بحمل هذا الوسام العظيــــــــــــم ، فكانت مرتبة الواحدة خلف الأخرى في جيبه عند استشهاده .

وبينما أنا أقلبها ببالغ الأهميـــــــــــــــــــة والحذر بعد أن نقلت الي عدوى الخوف على مكنوناتها ، استرسلت بحديثها المسامر الذي خامره الفخر والزهو ، لتخبرني بأن زوجها كان يحمل هذه الأشيــــــــــاء أينما حل وأرتحل ، يحفظها في جيب قميصـــــــــــه  ، فاخترقتها الرصاصة تباعاً، بدءاً بآية الكرسي ثم نص الفتوى وتوجيهات المرجعية وبهذه الوريقات النقدية ؛ حتى وصلت الى قلبه النقي ، ثم ومن دون وعيٍ منها أخذت أحداها من يدي لتسد رمق شوقها وتقول ...

ـــ وأنا احتفظت بها لولدي " علي " كي تكون له وسام شرف وإرث مقدس من أبيه  .

وأكملت كلامها بعد صمتٍ قصير لم يتجاوز بضع ثواني :

ـــ كان رافد رجلاً طيباً مترفعاً عن الأخطاء ؛ باراً بوالدته التي لم تتقبل فكرة ابتعادها عنه حتى بعد زواجه فاختارته من بين أولادها الثلاثة لتسكن معه ، " نعم ... الفراق مؤلم ؛ لكن الذلة والتخاذل أكثر إيلاماً " .. هذا ما تعلمته من رافد ، نعم .. أشتاق دوماً لوجوده بيننا .. بيد أنني لست نادمة على عدم ممانعتي له ، ولن أفكر بما فعلته بنا الأقدار ، بل افكر بما سنفعله لنهزمها ؛ ونقلب المعادلة من هزيمة نكراء الى عزةٍ غراء ، لقد رجفت جفون الموت بجراحه وتخّلد عمله الحسن .. لذا عاهدتُ نفسي أن أكون مرآته وأحفظ وصيته ما حييت ، سأكون كما أرادني دوماً  ابنة بارة لوالدته وأماً حنونة لولده .

خرجتُ من منزلها حاملة أوراقي ، أدون هزيمة ذهولي بحبر انتصاراتها ، كأننـــــــــــــــــــــــي ولدت من جديـــــــــــــــــد ! أو  أفقت بعد غيبوبة طويلة !  هكذا يجب أن نكون ... ولو كنا كذلك لاعتلينا جبال الظفر بالصبر .

نغم المسلماني