باتت ظاهرة " الحجاب " مما يؤرق صناع القرار الفكري والثقافي وحتى المجتمعي في الغرب ومنه أوربا على وجه التحديد ،  خصوصا وهم يحاولون جاهدين في هدم مبانيه ـــ الحجاب ـــ الفكرية والثقافية ، قبل ان تندس بين ثنايا افكار نسوتهم ، وقد تنوعت حيال ذلك الذائقة الغربية الى ثلاث توجّهات هي :

ـــ  الضد ، وهو توجه يرفض فكرة الحجاب بشكل مطلق ، ويقود اصحاب هذا التوجه فرنسا .

ـــ  الحياد القاسي ، وهو موقف قاسي من بعض الدول ومنها أمريكا ، وقسوة هذا الحياد قائم على اعتباره ـــ الحجاب ـــ مسألة خاصة ، الا أنها ستحرم صاحبتها من بعض الأمتيازات كالعمل في بعض الأماكن .

ـــ  الحياد المرن ، وهو توجه تقوده دول أوربا الشمالية والدول الاسكندينافية ، ومفاده بأن مسألة الحجاب مسألة شخصية تعود للمرأة وحريتها في انتماءها وقناعاتها الشخصية ولا يمكن ان يكون ذلك عائقا لها في العمل فيما ترغب ، مع انه شيء غير محبب ولا مرغوب من قبل المجتمع .

وبغية تحليل ما يراه الغرب حيال ملفة الحجاب ، لابد أن نعرف أن الحجاب ـــ حسب النظرة الغربية ـــ بات الوسم الذي تتسم به المرأة المسلمة حصرا ، وكأن ليس من امرأة ـــ وأن كانت يهودية او مسيحية متدينة ـــ يمكن ان ترتديه  ، خصوصا وأن مراكزهم البحثية ترى في انتشاره علامة مهمة وملمح استباقي لانتشار الإسلام في هذه الدول وربما ذكّرهم ذلك بأيام الأندلس مثلا والحروب الصليبية .

ومما جعلهم في قلق حيال ذلك هو قراءتهم للحجاب على أنه تغيير في المعادلة الحضارية الغربية وربما الصليبية حتى ، ومن الوجهة الثقافية والفكرية والمجتمعية بل وحتى السياسية وصولا للاقتصادية منها ، وأنه ـــ أي الحجاب ـــ عائق مهم قبالة ما تنشده هذه الدول بما يسمى بــ " الاندماج الحضاري " الذي هو بالأصل تضييع للخصوصيات وتذويب للأديان والثقافات المجتمعية خصوصا تلك التي تميز الدين الإسلامي عن غيره .

وثمة من يتساءل ، لماذا هذه القراءة الغربية حيال الحجاب بالتحديد ؟

والجواب يكمن في أن من يرى ـــ كمراكز الأبحاث المجتمعية ـــ ان أبناء النسوة غير المحجبات أسرع ذوبانا في المجتمعات الغربية من أبناء الملتزمات بالحجاب ، وبالتالي فأن وراء الحجاب ما وراءه من ثقافة تسد على الأخر منافذ التبعية والذوبان في المجتمع الغربي وهذا هو خطره حسب اعتقادهم .

وللأمانة ، فأن الحجاب ليس هو العائق الوحيد لتذويب أبناء الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية ـــ وأن كان هو الأبرز ـــ فهنالك المدارس الأسلامية والمساجد والجمعيات الفكرية والثقافية ذات الطابع الأسلامية ، وما الحجاب الا لأنه ـــ حسب الغرب ـــ منطقة رخوة يمكن الدخول منها لتفتيت وتذويب هذا الانتماء باعتباره الأكثر تمثيلا والأكثر علاقة بالطرف الضعيف ـــ ويقصدون المرأة المسلمة ـــ .

ما يهمنا في ذلك هو التيار المناهض للحجاب والذي تقوده فرنسا ( وهي طليعة البلدان التي تنادي بالحرية في أوربا والدولة العلمانية الأبرز فيها وشعارها في ذلك حرية مساواة إخاء ) !

وقبل الشروع في ذلك علينا ان نعرف حجم فرنسا وثقلها في أوربا من جهة ، وتمثليها التأريخ لها من جهة اخرى .

ففرنسا من اعرق البلدان الأوربية ويعود تاريخها للقرون الوسطى كما أنها أقوى البلدان في أوربا ورائدتها في العصور الحديثة صناعيا (عصر النهضة) ، وفكريا وسياسيا (من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كما أنها من اوائل الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي ، والأهم في الدول الفرانكفونية ومجموعة الثمانية ومجموعة العشرين و حلف شمال الأطلسي ومنظمة التعاون والتنمية ومنظمة التجارة العالمية والاتحاد اللاتيني ) ، عدا أنها الإمبراطورية الأقوى بعد بريطانيا في منتصف القرن الماضي ، كما أنها أكبر دولة في أوروبا الغربية والاتحاد الأوروبي جغرافيا والثالثة سكانيا ، ويقارب عدد المسلمين فيها الخمسة ملايين مسلم قبالة أكثر من 65,000,000 مليون فرنسي موزعين على تنوعات أثنية ودينية وعرقية متعددة . وبالتالي فأن المسلمين يمثلون فيها رقما مهما وأن حجاب النسوة المسلمات يمثل منظر لافت للانتباه لدى الناظر مما قد يضيع هويتها العلمانية خصوصا وأن السياحة فيها قائمة على الحريات التي هي اقرب للانفلات ومنها سياحة الجنس ومتطلباته .

 ورغم تنوع التوجهات حيال الحجاب الى ما سبق ذكره من توجهات ثلاثية ، إلا انه بات مورد قلق لجميعها باعتبار ان لهم جميعا قراءة واحدة مفادها بأن الحجاب مؤشر فعلي على حالة تنامي الإسلام في فرنسا ، وهذا بحد ذاته إشارة لفشل مشاريع الدمع المجتمعي التي رسمها الجمهوريات في فرنسا على تعاقب أجيالها ، بخصوص منع السماح لطغيان لون اثني او ديني على اخر مهما كان ؛ بما في ذلك المسيحية نفسها .

عدا ان المظهر الأجلى للأسلام ـــ على الأقل من النظرة الأولى ـــ هو الحجاب ، وأن تناميه يجعل منه ظاهرة وبالتالي قوة فكرية ضاغطة يمكن ان تجعل غير المسلم في تساؤل مع نفسه حول الإسلام ، وهو ما يمكن ان يجذبه اليه ، وهذا ما يجعل الآلة الإعلامية الغربية ومنها فرنسا ـــ بالتزامن مع احداث نيس وسان دوني وباتكلان وشارلي أبدو وغيرها ـــ تخلق ترابطية نمطية لدى الجمهور الغربي عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب بل وحصره به قدر المستطاع .

بقي ان نشير الى ان الحجاب هو الأخر لم يعد مجرد التزام شرعي ، او قطعة قماش توضع على الرأس امتثالا لأمر سماوي ، إنما صارت ملمح تحد وإثبات لمنظومة فكرية ، عدا أنه بات محفزا للمرأة المسلمة من إثبات ذاتها على أصعدة اخرى بالتزامن مع ما يميزها فيه .

كما أن النظرة الدونية التي ُترمق من خلالها المرأة المسلمة بحجابها ، ساعد على ولادة مقاومة فكرية وحصانة علمية لها كمانع من هذه النظرة ، كاضطرار للدفاع عن معتقدها بالحجاب ، وبالتالي الى طرح قناعاتها التي اثنت الكثير من الفرنسيات عن انتماءهن ، لصالح الإسلام طبعا .

    ومع ولادة جيل من النساء المحجبات ممن ولدن في فرنسا ، بات مؤشر قلق المراكز البحثية هذه وتوصياتها بالدمج المجتمعي مثار قلق وتهاوي لأن هؤلاء النسوة سيمتلكن قوة اكبر في إدارة افكار الأخريات غير المحجبات ، وأنهن ـــ بحكم ولادتهن في فرنسا ــ اقدر على إيصال هذا التغير الى قريناتهن ، عدا أنه مؤشر خطير على فشل مشاريع الدمع التي عكفت فرنسا لسنوات طويلة في تطبيقها .

بلاسم الشمري