ما زلت قابعة في صومعة حزني ؛ أتذكر واسمع تلك الطفلة التي سجنت روحها داخلي ...

لم تفارقني هذه الصورة رغم أني أقبلت على الأربعين من سني عمري ... فتارةً أسمعها تصرخ ؛ وأخرى أراها تغفو على وسادة أحلامها الضائعة ...

كم من الوقت يكفي لأنسى ؟ ولِمَ لم أنسى طفولتي المعذبة ؟

ما زالت كل الوجوه القاسية تتخاطف كأشباح أمام مسرح حياتي ؛ لترسم مشهدا تراجيديا يصفق له العابثون في مصيري ... حيث تستهويهم النهايات المأساوية ... مع أني لا أتذكر بالتحديد بداية القصة ، ولكن أتذكر جيداً معاناة أمي التي كانت تخفي وجعها عني وتكتم عبرتها وتتحمل الضرب والشتم بقلب صابر ولسان صامت وكأنها خلقت ليختبر الله فيها الصبر وفطرة الأمومة .

كم من مرة فكرت أن أدافع عنها ! وجربت ! ولكن كنت أضعف من أن أواجه قلوب لا تعرف الرحمة ! وكنت أصغر من أن أحاورهم أو أعاتبهم أو حتى أصرخ في وجوههم ! مع أني كنت كل ليلة أقرأ لوسادتي سيناريو متقنا وأقول لأسمع نفسي :

" لن أصمت ... فالصغيرة آن لها أن تكبر " ...

ولكن حتى تلك الأفكار وربما التأملات حرمت منها لكي لا أزيد من عذاب أحداً بسببي ! وكي لا أكون ذريعة لهجمة تهدد أمي وتقّض عليها مضجعها فضلا عن حرص أمي بعدم تدخلي ، حيث كانت تحاول جاهدة أن تبعدنا عن أي تصادم ومواجهة مع أحد لتواجه قدرها وحيدة ... فالمهم بالنسبة لها أن نكون بأمان ولو على حساب حياتها وربما كرامتها .

المؤلم أن عجزي هذا سببه الأقارب وليس الأغراب ، فبعد غياب أبي ؛ تأمر على هدوء حياتنا أقرب الناس لنا ! وابتكروا أسلوبا جديدا للاهتمام !!! نعم اهتموا بحياتنا لدرجة لا تطاق وكأن أرواحنا بيدهم ! فلا حق لنا أن نعيش ألا بأمرهم ، ولا ان نحلم ألا بأذنهم .

للأسف كبرت وأنا أحمل معي كل هذه العقد التي أورثوني إياها ... كبرت وكبر يتمي معي حتى بدأت أرى انعكاس صورتي في وجه أمي وأرى تفاصيل حياتي مع خطوط العمر والتجاعيد في وجهها .

سألت نفسي مراراً ذات السؤال : " هل يكرهوني حتى فعلوا هذا بي وجعلوا مني إنسانة لا تثق بمن حولها ؟ إنسانة حكمت على نفسها بالوحدة ... والأقسى من كل هذا أجهضوا مشاعر الأمومة داخلي لأني خفت أن أنجب طفلاً لهذه الحياة يعاني ما عانيته فلا ضمانات عندي كي أقدمها له ... والزواج بالنسبة لي كان مشروعا خاسرا أو صفقة غير مربحة كما لو أني متأكدة بأن كل شيء حدث مع أمي سيتكرر معي !!!

فربما سيتركني زوجي بعد سنة أو سنتين لا أعلم ! ربما أكثر ولكن حتماً سيتركني ذات يوم ! وليس لي طاقة لأكمل بعده وأواجه الحياة بمفاجئتها المخيفة .

أما معاناتي اليوم هو أني أرى واسمع أن ثمة أطفال يعانون مثل ما عانيت ... صرخاتهم تحتجزها جدران بيوت قست قلوب أهلها ، ونسوا أنهم سيمثلون أمام محكمة إلهية وأمهات يواجهن أقدارهن بصمت دون أن يلتفت لوجعهن أحد .

قبل عدة أعوام توقفت هنا ولم أضيف كلمة واحدة واحتفظت بهذه القصة دون أن أترك بصيص أمل يخترق ظلمة حياتي لأني تمنيت كثيراً لو أعتذر لي أحدهم أو أشعرني بأنه نادم ، أو أن ظلمه لي كان في غفلة ... لكن لم يفعلها أحد .

ولكن الآن وبعدما أدركت معاني جديدة للحياة وأيقنت أني نجحت باختبار ربي بالصبر والطاعة فضلاً عن قناعتي التامة بعدالته ... نفضت الغبار عن هذه القصة وكتبت بقلم أخر : " أني تصالحت مع ذاتي وبدأت أحاول لملمة شتات نفسي من أجلها ، وقررت أن أمنحها لقب الأم المثالية مع مرتبة الشرف على اعتبار أني خُيرت منح هذا اللقب لأحد فلن أجد بديل في الوجود يستحقه سواها لأني فهمت مؤخراً أنها لا تنتظر سعادة لنفسها أبداً وإنما سعادتها أنا وأخوتي .

وها أنا بخير وكل شخص أذاني وتسبب بحزني هو الآن يواجه مصيره الحتمي مع ما أقترفه من أخطاء بحقي مع حاجتهم لبراءة ذمة أو كلمة سماح مني ، لذلك أقدم اعتذاري من كل الطيبين الذين قابلتهم في حياتي بالصد والحذر منهم ، ومن كل المشفقين الذين رفضت شفقتهم ، ومن كل شخص أراد لي خيراً ولم أفهمه .

وقبل كل شيء أعتذر من أمي التي تقمصتُ ألمها وتضحيتها لسنوات طويلة وعكرت صفو حياتها بضعفي ، وعجزت أن أرد لها جزءا من ما قدمته لي ولأخوتي فكل شيء أمام عطاءها ضئيل ولا قيمة له .

ايمان كاظم الحجيمي