على مر التاريخ الإسلامي كان للمرأة دور في صناعة الأحداث ، وتغيير مجريات الأمور  رغم خُفوت الأضواء التي تسلط على ذلك الدور ! ودائماً كانت جنباً إلى جنب  مع الرجل  تقتحم معه ميادين الجهاد تسانده وتشد من أزره ، وأحياناً تشاركه وسام الشهادة المقدس ، ورغم إجحاف التاريخ فقد كان جهاد أولئك النسوة من الإشراق والتألق مما لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه .

جهاد خديجة (عليها السلام) إلى جوار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجهاد الزهراء مع الإمام علي (عليه السلام ) ، وجهاد زينب (عليها السلام) الاستثنائي مع الحسين ( عليه السلام ) مروراً بسمية أم عمار التي حملت لواء الشهادة ، ومضت إلى ربها وهي تحمل وسام : ( أول شهيدة في الإسلام ) .

وفي التاريخ المعاصر لمعت نجمة في سماء الشهادة ورسمت بدمائها الزكية خارطة العراق الحديث وكان استشهادها أحد أسباب سقوط نظام من أكثر الأنظمة ديكتاتورية ووحشية .

هي آمنة حيدر الصدر المعروفة ب ( بنت الهدى ) ، والتي ولدت في مدينة الكاظمية عام 1357 هـ - 1937م  في عائلة علمية متدينة ، والدها أحد كبار علماء الإسلام في العراق الفقيه المحقق آية الله السيد (حيدر الصدر) ، ووالدتها هي الأخرى من عائلة علمية بارزة ، فهي كريمة العلامة الكبير الشيخ عبدالحسين آل ياسين، وأخت المرجع الديني المحقق الشيخ (محمد رضا آل يس).

-نبوغ مبكر :

توفي والد السيدة آمنة وعمرها سنتان ، فالتزم أخواها إسماعيل ومحمد باقر بتربيتها ورعايتها ، عُرفت - رحمها الله - بالذكاء الوقّاد ، وسُرعة الحفظ ومع إنها لم تدخل المدارس الرسمية  لكنها لم تحرم من العلم ، فبيتها كان مدرسة ، وعائلتها كانت معهداً ... اهتم بها أخواها- فضلاً عن أمها- حتى علّماها مبادئ القراءة والكتابة والحساب كما درّساها المناهج الرسمية ، مضافاً إلى تعليم الدروس العلمية الحوزوية كالنحو والمنطق والفقه والأصول والحديث وعلومه ، كما درست الأخلاق وعلوم القرآن والتفسير والسيرة النبوية وباقي المعارف الإسلامية حسب مقتضيات التدرج ؛ لما أحّسا فيها من الاستعداد للاستيعاب .

ينقل عن والدتها أنها كانت شغوفة بالقراءة ، ومع إنها كانت اجتماعية الطبع وتحب الاختلاط بالناس  إلا إنها كانت منذ صغرها تميل إلى الانفراد بغرفة خاصة طلباً للهدوء والتأمل ؛ ولتوفر لنفسها الجو المناسب لبناء شخصيتها ، وإعدادها للعطاء والبذل في سبيل الله .

-الانتقال إلى النجف الأشرف :

حينما قرر شقيقاها الرحيل إلى النجف ليكملا دراستهما  رحلت الشهيدة بنت الهدى معهما وكان عمرها آنذاك أحد عشر عاماً ، وهناك انكبت  إضافة إلى تلقيها العلوم الدينية  على مطالعة الكتب والمؤلفات، فاتسعت ثقافتها ومعرفتها بكثير من الأمور، ولأنّها من عائلة فقيرة فقد كانت تصرف ما يُعطى لها من مبلغ بسيط لسدّ حاجاتها الضرورية في شراء الكتب ، وشاركتها صديقتها الفكرة ،ولكنها كانت تشتري كتاباً آخر  كي تقرأ كل واحدة منهما كتاب صديقتها ، وكانت تحسن استثمار الوقت ، وتحاول الإفادة من كلّ شخصية يمكنها الإفادة منها ، كما كانت تستثمر فراغ السيّد الشهيد الصدر لتنهل من علمه ومعارفه .

-في ميدان العمل الرسالي:

إن الدراسة المكثفة التي تلقتها الشهيدة بنت الهدى إضافة إلى ثقافتها الناتجة عن مطالعاتها الواسعة أهّلتها لمرحلة جديدة وهي دراسة المجتمع وتشخيص أمراض المرأة المسلمة في العراق والعالم الإسلامي ، فأصبحت تفكر وتنظر وتكتب في كيفية الوصول بالمجتمع والأمة إلى أعلى مراقي السمو الإنساني من خلال الرسالة الإلهية العظيمة .

كانت تعيش الهمّ الرسالي في تفكيرها وفي كتاباتها ، ولأنها كانت تملك قدرة عالية على جذب النساء إليها بعذوبة لسانها ، ولطافة منطقها ، وأسلوبها المؤثر  فلم تكن تراها امرأة وتسمع كلامها إلاّ وأعجبت بها وأصبحت من تلميذاتها .

وبهذه المواهب الذاتية والمكتسبة قامت الشهيدة بنت الهدى بدور فعّال وملموس في هداية الفتيات - وبالأخص العراقيات - ورجوعهن إلى التمسّك بتعاليم الدين الحنيف ، فكانت بحقّ رائدة العمل الإسلامي النسوي في العراق .

لقد عَرفت الشهيدة بنت الهدى أنّ التبليغ في أوساط النساء يمكن أن يؤدّي دوراً فعّالاً في تقدّم الحركة الإسلاميّة عموماً ؛ لذلك نجدها تعقد جلسات دوريّة في بيتها وفي بيوت أخرى ، وبالتعاون مع بعض النساء اللواتي كنّ على اطّلاع على ما يجري في الساحة العراقية من محاولات لإفساد المرأة ، وبذلك  استطاعت أن تُربّي جيلاً من المبلغات الواعيات اللواتي كان لهن دور في العمل التبليغي الرسالي .

-مدارس الزهراء (عليها السلام) تجربة علمية رائدة :

وفي عام 1967م أصبحت الشهيدة بنت الهدى مشرفة على مدارس الزهراء (عليها السلام) في مدينتي النجف الأشرف والكاظمية ، وهي من أعمال ( جمعية الصندوق الخيري الإسلامي ) ، والتي تُعد من أكبر المؤسسات الجهادية التي تشكّلت في العراق عام 1958م ، إضافة إلى إشرافها على مدرسة دينية أخرى في مدينة النجف الأشرف ، فكانت -رحمها الله- تقسّم أيام الأسبوع بين النجف والكاظمية .

تمثل عملها بالإشراف على تنظيم هذه المدارس ، وتعيين المناهج الدراسية التربوية الإسلامية ، كما كانت تحلّ كلّ ما تواجهه هذه المدارس من مشاكل وصعوبات ، إضافة إلى الدروس التي كانت تُلقيها على الطالبات ، وكان لديها محاضرات تربوية تُلقيها على المعلّمات بعد انتهاء الدوام الرسمي للمدرسة ، وبعد الظهر كانت لديها لقاءات مع طالبات الجامعة حيث تجيب على أسئلتهن ، وتُلقي عليهنّ محاضرات ودروساً في المعارف الإسلامية .

وفي عام 1972م وبعد صدور قانون تأميم التعليم  استقالت الشهيدة بنت الهدى من عملها بعد أن عرفت أنّها لن تستطع أن تؤدّي دورها الرسالي ، وقد بعثت لها الدولة كُتباً رسمية تُطالبها بالعودة  إلاّ أنّها رفضت ذلك ، وقد بررت رفضها بقولها : (لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة إلاّ نوال مرضاة الله ، ولما انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها فما هو جدوى وجودي بعد ذلك ؟ ! ).

-الكتابة الأدبية في خدمة الرسالة:

لم يقتصر نشاط الشهيدة بنت الهدى التبليغي على إلقاء المحاضرات والدروس  ، بل عملت على تكريس ذوقها الأدبي في خدمة الدين ، فكانت آثارها الأدبية التي أتحفت بها المكتبة الإسلامية تمتاز بالعمق والأصالة والدعوة إلى الإسلام  حيث جسّدت فيها المفاهيم الإسلامية بشكل أحداث وقضايا من واقع الحياة .

كانت تجربتها الأولى في الكتابة بشكل مقالات في مجلّة ( الأضواء ) التي أصدرتها جماعة العلماء في النجف الأشرف ، وكانت تخاطب بها الفتاة المسلمة بأسلوب محبّب وظريف ، وتدعوها للتمسك بتعاليم الدين الحنيف ، وعدم الانجرار وراء المدّ الغربي ، ومما كتبته في تلك المجلة وبصدد الردّ على شعارات : تحرير المرأة ، وحقوق المرأة : ( أنغام سمعناها ، وسنسمعها أيضاً ما دام المكروب الأجنبي يسري في عروق مجتمعنا المسكين ، وما دمنا متمسّكين بمبدئنا الحقّ ، داعينَ إلى نهجه القويم ) ، وكانت تكتب مقالاتها وكتبها بتواقيع مستعارة ، هي : ( بنت الهدى ) ، ( أمّ الولاء ) .

-من المقالة إلى القصة الهادفة :

لم تكتف الشهيدة بنت الهدى في الكتابة الأدبية على المقال بل تعدّته إلى مجال أوسع وأرحب ، وهو كتابة القصة الإسلامية الهادفة ، والتي تستطيع بواسطتها أن تُوصل صوتها ودعوتها إلى أكبر عدد من النساء في العالم العربي ، وجعلهنّ أقرب إلى عقيدتهن ورسالتهن الإسلامية ، وقد أخذت بنظر الاعتبار أولوية الهدف وثانوية الجانب الفني ، وقد أشارت الشهيدة -رحمها الله- إلى هذا المعنى بقولها : ( إنّ تجسيد المفاهيم لوجهة النظر الإسلامية في الحياة هو الهدف من هذه القصص الصغيرة ) ، واستطاعت بنت الهدى -رحمها الله- من خلال القصص التي كتبتها أن تضع حلولاً لكثير من المشاكل التي تواجهها العوائل المسلمة في العالم الإسلامي الذي غزاه فكر الشرق والغرب .

ومن إصدارها الأول كتاب (كلمة ودعوة ) في أوائل الستينات استمرت في كتاباتها الواعية والهادفة فأصدرت مجموعة من الكتب المنوعة والتي قامت (دار التعارف) في بيروت بطبعها كلها بعنوان ( المجموعة القصصية الكاملة ) في ثلاثة أجزاء .

ومع إن أشعارها لم تكن بغزارة بقية إنتاجها الأدبي  إلا إن المقاطع التي نظمتها كانت تحوي أفكاراً وصوراً شعرية رائعة ، وبعضها كان يعبّر عن الروح الجهادية التي كانت تحملها بين جوانبها كما نلمس في هذا المقطع الشعري :

أنا كُنْتُ أعْلـَم أنَّ دَرْبَ الحقِّ بالأشْـواكِ حـافِل

خـالٍ مِن الرَيْحان يَنْشُر عطـرَهُ بيـنَ الجَـداول

لكنّني أقدَمْتُ أقْفوا السَيرَ فـي خَطـو الأوائِــل

فَلَطالَما كـانَ المجـاهدُ مُفْـرداً بَيـنْ الجَحـافل

وَلَطالَمـا نَصَـرَ الإلـهُ جُنـودَهُ وهَـمُ القـَلائل

فالحقُ يخلدُ في الوجُـودِ وَكُلّ مـا يَعْـدوه زائِـل

سأظل أشدو باسْم إسلامي وأنْكـرُ كـلَّ بـاطِـل

-جهادها واستشهادها :

تُعدّ الشهيدة بنت الهدى رائدة العمل الجهادي النسوي في العراق ، فلم تتصدَّ لهذا العمل سواها ، في الوقت الذي تصدّى له في أوساط الرجال عددٌ من العلماء والمفكّرين والشباب الملتزمين .

عاشت مع الحركة الإسلامية التي أسّسها وقادها أخوها المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر -رضوان الله تعالى عليه- منذ انبثاقها .

وما حركتها الفكرية ، ونشاطاتها الثقافية إلاّ جزء من الحركة الإسلامية المنظّمة .

عاصرت الشهيدة بنت الهدى عدّة أحداث سياسية هامة منها اعتقال الحكومة العراقية المجرمة للشهيد الصدر في مستشفى الكوفة عام 1972م ، ومنها أحداث عام 1974م ، حيث اعتقل عدد غفير من كوادر الحركة الإسلامية في العراق ، وإعدام خمسة منهم ، ومنها أحداث عام 1977م حيث انتفضت مدينة النجف الأشرف تلك الانتفاضة الحسينية الجماهيرية التي أرعبت نظام بغداد  ممّا حدى بهذا النظام أن يعدم عدداً من الشباب الأبرياء بحجّة خروجهم على القوانين وإثارتهم الشغب  كما استدعت الحكومة آنذاك الشهيد الصدر إلى بغداد وعاتبته على عدم تلبية طلباتهم في شجب هذا الأعمال واستنكارها .

وكانت الشهيدة- رحمها الله- تعيش عن قرب من هذه الأحداث ، واكتسبت حسّاً سياسياً تستطيع بواسطته إدراك ما يجري حولها ، وما سيؤول الأمر إليه .

وشهد عام 1979م تحرّكاً سياسياً واسعاً في العراق حيث جاءت الوفود ومن شتى أنحاء العراق مجدّدة البيعة للإمام الصدر طالبةً منه المسير قدماً في تطبيق حكم الله في الأرض ، فأحسّت حكومة بغداد بخطورة الموقف وتفاقمه ، وخوفاً من أن يفلت زمام الأمر منها أقدمت على اعتقال السيد الشهيد الصدر في 19 رجب .

وهنا بدأ دور الشهيدة بنت الهدى لتقف موقفاً بطولياً زينبياً ، يُعبِّر عن عمق الإيمان وإحساسها بخطورة المرحلة  حيث توجهت إلى مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ونادت بأعلى صوتها : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الظليمة الظليمة ، أيها الناس هذا مرجعكم قد اعتقل ، وسرعان ما انتشر الخبر ، وما هي إلاّ ساعات حتى خرجت تظاهرة كبرى في مدينة النجف الأشرف ، مُعلنةً عن سخطها واستنكارها لاعتقال السيّد الشهيد الصدر ، فسارعت الحكومة لإطلاق سراحه خوفاً من توسّع رقعة المظاهرات ، والتي امتدت  إلى محافظات أخرى ، بل وفي بلدان إسلامية أخرى مثل لبنان والبحرين وإيران .

وعندما عرفت السلطة خطورة الموقف فرضت الإقامة الجبرية على السيّد الشهيد وعائلته بهدف منعه من الاتصال بالحركة الإسلامية ، وتمهيداً لتصفية أقطاب التحرك الإسلامي ، ومن ثمّ تصفية السيد الشهيد جسدياً وفعلاً فقد أقدمت حكومة البعث الصليبية على جريمة العصر الكبرى حيث اعتقلت الشهيد الصدر وأخته العلوية في يوم السبت 5 | 4|1980 م ، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام تمّ تنفيذ حكم الإعدام بهما بعد شتى أنواع التعذيب والتنكيل .

وأفلَ نجم المربّية الكبيرة والمرشدة العظيمة العلوية بنت الهدى ، وفقدت ساحة العمل النسوي الرسالي فارسته الباسلة ، ولكن إرادة السماء شاءت أن تنتقم من الجلاد فتهلكه في نفس اليوم الذي امتدت به إليها يده الأثيمة ، وسيبقى دم الشهيدة بنت الهدى نبراساً ينير الطريق للمجاهدين والعاملين في سبيل الله وإعلاء كلمته حتى تحقق تلك الأهداف العالية التي جاهدت الشهيدة من أجل تحقيقها .

المصادر :

1- أعلام النساء المؤمنات / محمد الحسون / أم علي مشكور

2- مستدركات أعيان الشيعة / السيد حسن الأميني

3- موسوعة حياة المستبصرين /  مركز الأبحاث العقائدية

4- موسوعة مؤلفي الإمامية / مجمع الفكر الإسلامي

    خديجة أحمد موسى