تسعى العتبة الحسينية المقدسة لبذر نواة المشاريع الانسانية في المجتمع الكربلائي, وتتخطى مساعيها إلى عموم محافظات العراق, ويظهر ذلك جليا من خلال ما تقدمه من دعم معنوي ومادي لعوائل الشهداء والأيتام وما تخصصه لهم من الجوانب الأخرى كحقوقهم في التربية والتعليم والعلاج.. ومشاريع أخرى لشرائح تحتاج رعاية خاصة كمرضى السرطان ومرضى طيف التوحد وغيرهم من الفئات المجتمعية المهمشة التي تولي العتبة الحسينية رعاية أبوية وخاصة لهم كونها تتحلى بقيم ومبادئ المولى أبي عبد الله (عليه السلام), وفي سياق التقرير سنتوقف عند مشروع انساني بامتياز؛ (دار الوارث للإيواء والتأهيل المجتمعي) أحد المشاريع المهمة؛ لما يقدمه من عطاء وخدمة نوعية لفئة المشردين.

قصة الدار

يتحدث الحقوقي حسين النصراوي مدير دار الوارث عن هذا الحلم الذي تجلى واقعا في عام 2017.. ويقول: "في البداية كانت فكرة ناقشتها مع مجموعة من الأصدقاء, كنا نتألم لحال الأطفال المشردين في الشوارع بلا مأوى ونحن على يقين بأن لو مُدت لهم يد العون لكان حالهم أفضل, فالإنسان خُلق ليؤدي رسالته في هذا الوجود وبما أننا مؤمنين بالفكرة فقد دخلت فعليا إلى حيز التنفيذ بعدما تبرع أحد الخيرين بمنزل في منطقة حي الحسين ثم تم تخصيص البناية الحالية من قبل وزارة العمل وجاري التنسيق والتهيئة لمشروع آخر ملحق بمشروعنا الانساني البكر لرعاية المسنين" ويضيف النصراوي حول أعداد ساكني الدار "لا يوجد عدد ثابت يمكننا اعتماده لأننا وكما أكدنا من خلال عنوان الدار فنحن لسنا دار للإيواء فقط بل للتأهيل المجتمعي أيضا؛ بمعنى تزورنا كثيرا من الحالات التي تستدعي إجراءات خاصة نفسية ومادية وتربوية ثم إعادتها للاندماج في المجتمع بشكل طبيعي, فهي لا تحتاج أن تمكث في الدار بشكل دائم كوننا نسعى لأقصى الحلول للحفاظ على الكيان الأسري, ولكن إذا تعذر علينا الوصول إلى هذا الهدف فنكون بلا أي شك الأسرة البديلة لكل طفل فقد عائلته لأي سبب كان وتحت أي ظرف".

في دار للأطفال مسن

مما لفت انتباهنا عند دخولنا دار الوارث لإيواء الأطفال المُبعدين عن عوائلهم وجود أحد كبار السن وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة, يوضح النصراوي هذا المشهد الرائع لتناول وجبة الغداء للمسن بمعية شابين من ساكني الدار ويقول: "يستغرب أغلب الضيوف لرؤية كبار السن في الدار بحكم تسميته وطبيعته؛ إنه للأطفال المشردين, لكن في الحقيقة فإن العمل الإنساني لا يمكن تأطيره ولا توجد سياقات مهنية عند بعض المواقف الاستثنائية, وهذا ما حدث معنا حرفيا حينما علمنا بوجود حالة مأساوية لرجل طاعن في السن ومصاب بجملة من الأمراض ولم يستدل على أحد أفراد عائلته, وكان بالقرب من إحدى المستشفيات الحكومية, فما كان منا إلا أن نهرع إلى المكان في الحال ونصطحب معنا الرجل ونؤمن له كل ما يحتاج له من عناية طبية ونظافة شخصية واهتمام ورعاية مستمرة, ومن الجدير بالذكر بأن أطفال الدار ومن دون أدنى تكليف أو توجيه أخذوا على عاتقهم رعاية الرجل المسن بلحاظ إنه من ذوي الاحتياجات الخاصة والعناية به تتطلب جهدا نوعيا, ويوجد ثلاثة نزلاء من كبار السن أيضا, يتعاملون معهم بمحبة مطلقة واهتمام نقف أمامه فخورين لما حققناه من إنجاز على الصعيد العاطفي فمن يزرع الحب لن يحصد سواه".

مواهب ونشاطات

 ليس من الغريب أن نكتشف من خلال الحديث مع النصراوي أن هناك مواهب مختلفة في الدار, فالبيئة العاطفية التي يوفرها الكادر تنعكس على أداء الأطفال وبما إنهم في النهاية من حقهم أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي ولديهم ميول ومواهب بالفطرة, يصف النصراوي بعض المواهب قائلا: "الصوت الجميل هبة من الله عز وجل ومن بين ابنائنا لدينا موهبة رائعة لقارئ للقرآن الكريم وهو في عمر صغير, ولأننا حريصون على دعم المواهب واثبات أن الابداع قد يقترن فعليا بالمعاناة أو على الأقل تحويل بعض صعوبات الحياة إلى أمل قمنا بالتواصل مع إحدى الفضائيات وتم عرض موهبة الطفل وسيتم فعلا التنسيق مع القناة للقيام بتسجيل برنامج قرآني للأطفال بالاشتراك مع أحد أطفال الدار, فضلا عن موهبة أخرى للتصوير؛ فمن بين الأطفال ثمة مصور صغير شغوف بالتصوير الفوتوغرافي ويعشق الكاميرا مع إنه يستخدم كاميرة الموبايل ويصور أشياء عادية مثل الحصى وأوراق الأشجار لكنه يحولها برؤيته الفنية إلى لقطات فنية مميزة, وغيرها من المواهب والهوايات التي نكتشفها باستمرار لنتأكد أنهم يستحقون حياة أفضل بكثير وأن كل الجهد والتعب يتلاشى فقط حينما نشعر أننا تمكنا من زرع الابتسامة على وجوههم والأهم ضمان مستقبل مستقر ينتشلهم من المجهول.

مشاريع وتطلعات

مع وجود عدد من الفتيات في الدار ضمن قاطع منفصل مع كادر نسوي متطوع لرعايتهن, وإلى جانب وجود المسنين, ولكثرة الحالات الحرجة التي تستدعي رعاية خاصة مثل مرضى السكتة الدماغية وذوي الاحتياجات الخاصة ضمن شريحة الايتام في المجتمع, يتطلع مدير دار الوارث بدعم العتبة الحسينية لافتتاح بناية أخرى مخصصة للحالات المذكورة, فالعمل الانساني لا يقف عند حد معين وما أن يكون في الانسان في دائرة المبادرة والعمل الخيري حتى يجد نفسه غارقا بالأفكار والرؤى والتطلعات المستقبلية التي تقوده للوصول إلى أكبر قدر من تحقيق غاياته وأهدافه السامية على ارض الواقع, وهذا المشروع بالتحديد يجعلنا أمام موقف ومسؤولية عظيمة لنحاول ولو بقدر معين ووفق إمكانياتنا المحدودة أن نساهم بشكل أو بآخر لدعم هذه الفئات المهمشة ونكون عونا لمن اتخذ على عاتقه زمام المبادرة فصلاح المجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا حينما يشعر الفرد بالمسؤولية لتنتقل إلى مستوى المسؤولية الجماعية ومنها إلى مشاريع انسانية شاخصة لا يمكننا إلا أن نقف احتراما لها كمشروع (دار الوارث للإيواء والتأهيل المجتمعي).

إيمان كاظم