الخطاب الموصل إلى النص تؤشره حالة التوّحد مع ذاته, أ كان هذا الخطاب ذكورياً او انثوياً، بالرغم من أننا لا نميل إلى هذا التصنيف، إلا بقدر ما تُتيح لنا رؤانا لطبيعة الخطاب وخصائصه من خلال علاقته بالواقع المعاش من جهة، والواقع المعرفي من جهة أخرى.. ولأننا بإزاء تقديم قراءة لنص كتبته أنثى، يتوجب علينا أن نوّضح القصد عبر رؤيتنا لهذا النص, فهي قراءة تستنبط القيّم المعرفية العامّة التي يُرشحها النص، كذلك القيّم الفردية لتي تتمسك بها رؤى الساردة.

مراحل سلطوية

الخطاب الأنثوي عبر التاريخ على قِدَمه يُشير إلى طبيعة موَّجِه هذا الخطاب، وهذا تطلب منه أن يكون متمسكاً بنوّع من التفرد والخاصية الذاتية.. الأمر الذي يقودنا لتوسيع الرؤى إلى خطاب الأنثى لمحاورته, وحصراً الخطاب الأنثوي العراقي، الذي غلب عليه خطاب صوت الرجل المتداخل, ذلك لأن الأنثى منذ نشأتها الأولى، تعيش تحت ضغط سلطات متعددة, وهي في معظمها سلطة جائرة وحازمة وغير متوازنة إزاء وجود الأنثى شريكاً معبّراً عن وجوده بما لديه من استعدادات قادرة على صناعة المواقف, ثم سلطة المجتمع والمؤسسة التربوية في كل مراحلها, والأهم هو سلطة الأم التي هي خليط من عناصر الضعف إزاء الزوج، ومكمن الانقياد إلى تابو الدين والمحرم والخرافي بكل وسائله.

الأنثى الساردة تنشأ وسط هذا الخليط غير المتجانس، حتى بلوغ سلطة الزوّج الذي يحاول صياغة شخصيتها وفق رؤيته كما ذكرت ( فاطمة المرنيسي) في (بنيان الفحولة) مما ولّد صورة لتكرار خطاب الرجل بعنوان الأنثى.

من هنا نستطيع استعارة نظرة القاصّة والروائية (رغد السهيل) مثلاً في تخريجاتها لبلورة مفهوم سرد الأنثى، الذي ابتدأ باللغة وخاصيتها، وصولاً إلى فلسفة الخطاب الأنثوي؛ لذا فخطابها بإزاء خطاب الآخر المستعين باللغة, فخطاب القاصّة والروائية (لطفية الدليمي) عملت على تصفية صوتها من شوائب صوت الرجل, وذلك بالاستعانة بمتن المعرفة, ومزاولة الكتابة الرؤيوية.. لا لشيء، بقدر ما عملت على هذه البلوّرة عبر نماذجها في النصوص, كما في رواية (من يرث الفردوس) لم تستعر صوت الرجل (سحبان) الذي رافق (مزيّنة)إلى حصن (المسهج) ومن ثم إلى الجبل حيث كما وتعاملت مع شخصية الأنثى في رواية (بذور النار), واجتهدت الكاتبة( علياء الأنصاري) كي يكون سرد المرأة متوّحداً مع ذاتها، وتمردها على سلطة الزوّج السياسية قبل الأسرية، وهي الأستاذة الجامعية ذات الصبغة الدينية في سلوكها وتعاملها مع الطلبة خاصة من الإناث.

لغة الآخر

 هذا الميّل للتغيير دال على تأسيس كينونة  ذات نمط  فلسفي وفق منطق الخطاب الأنثوي, وهنا لابد أن نقترب من خطاب (السهيل) في أطروحاتها, وهي بطبيعة الحال مع ما ذكرته الكتب المعنية بخطاب الأنثى في ما يخص العلاقة بين الجنسين فـكما تقول أن ( لكل فريق لغته الخاصّة التي ترتبط بالخصائص النفسية والتاريخية والاجتماعية, ولن ينجح الحوّار بين الطرفين ما لم يتم تفهّم لغة الآخر, فلا يفرض أحدهما لغته على الثاني، وإلا تلاشى الفرق واندمجت اللغتان, واصبح الخطاب بلغة واحدة؛ هي المهيّمنة وهذا اقصاء لهوية الآخر فاللغة جزء من الهوية ) وهذا القول من الناحية المنطقية صحيح، ومن الناحية التطبيقية أيضاً، فهو خطاب يبحث عن هوية الجنس السارد ولعل رواية (سيدات زُحل) لـ(لطفية الدليمي) تأكيد على ماذكرناه بشأن الهوية السردية.

دلالة اجتماعية

وقد ساهم مع بلوّرة صوت الخطاب الذي دعت إليه الكاتبة الدليمي بمعنى كان الخطاب ذي محتوي للكثير من مجريات الواقع الذي كبلته قيّم جديدة، تنحو للخطأ من وجهة نظر الساردة، كذلك ما تجسّد خلالها من صوّر باطلة، أحدثت شرخاً بين القيّم الموضوعية والأخرى الذاتية.

إن الساردة عزمت على التمسك بقيّمها التي أوحى بها مستوى الوعي والحساسية إزاء بؤر اعتبرتها أكثر قرباً منها حسياً؛ لذا فالحماس الذي كان عندها مترشح من أحقية تلك القيّم التي آمنت بها, ذلك لرؤيتها لنموذج (زكي) في رواية (أحببت حماراً) ومن بعده صاحبه المنتهك بمقياس تهذيب النموذجين, ولهذا دلالة اجتماعية  ترشحت من الفقدان الخاص(زكي) والفقدان العام ( ضياع القيّم) من هذا نرى أن التعلق بالحيوان ليس حالة شاذّة، بقدر ما كانت تنّم عن حساسية النموذج (المرأة) التي استجمعت كل ما واجهته وتواجهه ضمن التشكيلة الاجتماعية والوظيفية هي صورة مقلوبة لشخصية (سامسا) في (مسخ كافكا) الفرق واضح بينهما في نوّع العيّنة المفروزة من مجموعة عيّنات الواقع الذي اختلطت فيه القيّم، لكن الدلالة  توحدهما, إن البناء الاجتماعي يتأسس على قيّم عليا، يرثها المجتمع، ويُجدد صوّرها ضمن حركة الزمن, غير أن تلك القيّم بالمقياس الذاتي، انحرفت عن نصاعة الصورة، بل تهاوت في الخطأ بمرور الزمن، بحيث ولّد هذا نوعاً من الشرخ بين القيّم الجديدة التي بنيّت على الخطأ، والقيّم الذاتية التي حافظت على قيمتها ووحدتها الموضوعية, وهذا الفرز الواقعي كان في متناول تداول النص.. ولعل محاولة الكاتبة عبر ساردتها قد تمكّنت من رفع الحيّف عن القيّم المفتقدة، والامساك بخيوطها خوف القطع النهائي، كما فعل الزمن بالقيّم العامّة عند الكثيرين الملوّنين في المواقف.
جاسم عاصي