نداء الجماعة

هل يمكن للإنسان، أن يكون نسخة لأسرته ؟، أو لمجتمعه، أو صدى لواقعه ؟، أو شبحا لثقافته، وإذا كان هكذا، فإنه سيكون صوتا لـ (ذهنية)، أو(عقلية) قارة، رسبت في قاع المجتمع، ونامت عليها الثقافة، أو تحكمت بمنطق التفكير، واستأثرت بآلياته، توقفت في مرحلة تاريخية معينة ؟!، وأوقفت نماذج التفكير، ورواد العلم والمعرفة عندها ؟!، فهي تعيد إنتاج نفسها !، بتفكير تكراري ممل، وعلى السكة المعتادة، والموجة عينها، وإذا ما عنت لها مشكلة ما، وقهرها تحدي ما، أو رهان ما، وطلب منها طلبا ملحاحا، أن تتصدى بعلم ومعرفة، مكافئين، أو تفكير غير مسبوق، أو فهما مبتكرا، ووعيا عبقريا، لم يعرفوا في العادة، ولم يدركوا في العرف، ومن النفال القول، أنهم يخرجون من رحم العادة والعرف، وهم لا شك يحملون شيئا من آثارهما، وبعض ما بقي فيهما، حيا نابضا، أو بنى لها قدرا من المسؤولية، وحظا من الفاعلية، لهم قابلية للاستئناف، أو لهم أهبة الاستعداد، لأن يلجؤوا  للإنعطافة، تفصل ما هو ميت ومتكلس، في العادة والعرف، ولأن تصير منتجة وشغالة، أو قابلة لاستيعاب الحديث وهضمه، و متوفزة لاستجلاب كل طارئ تدعوا إليه الحاجة، وإستدخال ما يكون مهمازا، لإنعاش الثقافة، وتوتير الفكر، ولا تنسى أو لا تغفل  عن أن تمسك نفسها، أو تفرمل رغباتها، حتى لا يخرجوها إلى الإنبهار، ويصرفوها عن ذاتها، أو ما به تتماسك شخصيتها، ويستمر تاريخها، وتثبت رسالتها وتتحصن، وإذن فالقديم، أو (التراث)، عنصر أساسي وجوهري من الذات، ولولاه لما شعرنا بالتفاوت التاريخي، والفارق الحضاري، والجفوة المدنية، ولولاه لما طلبنا التقدم، ولا رغبنا في النهضة رغبة طاغية.

إستحوذت هذه الرغبة على عقلنا وفكرنا، وتملكت مشاعرنا وعواطفنا، وعمرت صورتها خيالنا، ويكفي أن نقف مليا، ونتملأ الجهد المبذول، والإمكانيات المسخرة للحاق بالنهضة، أو فتح بابها الموصد، والتعرف على شفرتها، هل يعني هذا غير ركوب قطار الحضارة، ولكن أي حضارة ؟!، وما هي ماهية هذه الحضارة ؟، وما هويتها، وهل لها صورة في خيالنا؟.

وإذا انطرح سؤال، أو استفهام إنكاري ؟، لماذا كل هذا العناء ؟، أو هذا الأخذ والرد ؟، في المقاربات والبحوث التي لم ترس عند بر ..، ولم تبرم جواب يشفي العيي، ويقنع الذكي، أو لم يتهيأ لها بعد إكمال السؤال، وحسمه ؟ ..، ولا بناء الإشكالية، وبلورتها ؟، وبالجملة، فهذه الحيثية، هي قدرنا الذي لم نبرحه، ومحتم علينا أن لا نتركه، وهو الحافز على أن نكون (نحن)، ولا نكون (غيرنا)، فلا الطرح الذي يمكن أن يكون غير مناسبا للسؤال، بالرغم من تكراره يسكتنا، ولا التعثر في طرحه، والارتباك في صياغته، يسئمنا ويضجرنا، ولا العيب أو النقص في بنية السؤال يذهلنا، وقد يتبادر لذهن بادي الرأي، أو لمن هو خالي الذهن، كسول العقل، جواب ساذج، شارد، منفلت من كل قيد، إلا قيد التغريب، أو الوكالة الحضارية.

 

عنده أن الحضارة قائمة، وسائدة، وثمارها في متناول البشرية جمعاء، وهي في المحصلة، حضارة الإنسان، بالحرف الكبير !؟، فلم هذا الكنود، وهذا الشذوذ ؟!، ولم هذا الإصرار على منافستها، وبالأحرى مصارعتها ومغالبتها !!، أليس من الأجدى تأهيلنا للدخول تحت لوائها !، وتكييفنا لبلوغ الأخذ منها بسلاسة ويسر !، والإنصباغ بهذا اللون الجامع، وتسجيل اسمنا في دفتر هويتها، وهذا زعم منتفش، وإنصياع وضيع، يبطله التاريخ، ويأباه منطق الثقافات، ولا يستوي مع واقعات إتلافها وتنوعها، أو خصوصيات المدنيات، وإن كابرت الثقافة أو المدنية الغربية، في ادعائها بأن السبيل السالك الوحيد، والباب المشرع الأوحد أو الفريد، للولوج إلى الحضارة، هو سبيل مدنيتها، وباب ثقافتها، وهو ما يعني أن دورنا في الحياة ملغى، وأن وظيفتنا في تدبيرها غير ملقاة على عاتقنا، أو كل على الآخر، وأن سعينا للفهم، ثم للتغيير، ضرب من المحال، أو غث من المقال، وسقط الكلام.

إذا كان الفهم، والتعبير، يتعلق بموضوع، يمتلك مقومات الوجود، الموضوعي، والموضعي !، فإن هذا الموضوع هو واقعنا، وهل واقعنا شيئ آخر، غير تاريخنا الذي نجره ورائنا، رغبنا أم لم نرغب، أحببنا أم كرهنا، وهو أيضا إرادتنا وقدرتنا، أو شكلهما، الذي أوحت به الرؤيا والهمة والفكر، وشخص في مبادئ رسالية، حلت روحها في الجماعة، وهو إشعاع القيم، وقد رشحت على الحياة العطشى، ووشحت الطبيعة الصماء، وإستئصلت من العلاقات القلى، وكانت للموازين والمعايير سناء، وللوجدان جود وندى، وللعقل علو وصفاء، أو إستواء وهدى، ونفت عن السلوك الكدر والردى، هذا هو الواقع، في إلتئمام مفرداته، أو إلتحامها وتشابكها، أو إتساقها وتناغمها، أو هذه هي بطانة الواقع : _ كمنظومات عقلية، وعلمية، وروحية ورمزية، أو هذه هي المنصة، التي تجعله يرتقي إلى الرمز، ويرتفع إلى المعنى، أين تنبسط عقد الواقع، وتضاء عتمته، وينفسح ضيقه، ويخف ضغطه، وتحتمل مفاجاءاته، وتمتص صدماته، وتجاز تصدعاته، وشقوقه، بالسلامة المقبولة، والحالة المرضية، وهي الوضعية التي يتم الإستواء فيها على الواقع، والهيمنة عليه، أو التحكم فيه وضبطه، إصلاحا أو ترميما، أو تعديلا وتكييفا وتطويرا، ولا يكون هذا ممكنا، إلا في الحالة المثلى للثقافة، أين تكون عناصر نسقها تشتغل بالقدر المطلوب، و بالصورة التي يقتضيها حجمها، وفي حدود مكانها، وبمقاس سعته، وأن لا يتخلف عنصر، أو يضعف، وأن تكون هذه المفردات، أو العناصر، في مضمار سباق واحد، تفيض فاعليتها زيادة عن الحاجة، لتلقي هذه الفعاليات جميعا، في نقطة حرجة، وتستلم من طرف فاعلية أشمل، أو شكل من الفاعلية نوعي، أبلغ تحولا، وأكثر تركيبا، ومطاوع بإتجاه رياح الرشد والسداد، ومتحالفا مع تصويب الوعي، ومرمى سهام العقل، ولن تكون هذه إلا تربة خصبة، وجو ممطر، ومناخ ملائم، لنهوض أنظمة سياسية، وعقلانية، ومقتدرة : _ أنظمة اقتصادية قوية البنية، متينة الأركان، وصلبة العود، تحوز على إمكانيات التخطيط الواقعي، وكفاية المعرفة بالمعطيات، والتبصر بالاستشراف المستقبلي، والإدراك للعنصر البشري، كعامل حاسم في عملية التنمية.

هذا العنصر الهام، أو الفائق الحساسية، ينبهنا إلى أن طريقة التعاطي معه، جد رفيعة، ودقيقة، أو هي(أعز من الكبريت الأحمر)، كما يقول المثل السائر، قد يتساءل متسائل، قد غمض الأمر عليه، مستفهما مستغربا، أو مطرقا متحيرا، أو منتفضا قلقا، أ إلى هذا الحد يشق ويصعب الأمر ؟، أو على هذا النحو المعجز، أو الشكل الذي يتعب الإدراك، وينهك العقل، لا، بل يؤز العقل ويوقده، أو يوضعه على المحك، ليوهجه، فيقف على قدميه، أو ينتصب متأهبا، ويواجه متصديا، أو كالسيف، يستل من غمده، ليضرب ضربته البتراء متحديا.

نعم الأمر ليس فيه شطط ولا تطرف، ولا مماحكة في القول، إلا على من ضاقت رؤيته، وانكمش أفقه، واستوى عنده الأمر الحقير، والأمر العظيم، أما من بلغ مقام الإشراف من عل، وارتقى سلم الهمة، ورسا، على ميناء التفكير الجاد، أو النظر الاستثنائي، فإنه مقاد بالحكمة، ومحكوم بالبصيرة، وقوف عند العبرة، مرهف الحس، لطيف الحدس، سباق للزمن، متوقع للأحداث قبل وقوعها، فإنه يمضي فورا، إلى التصديق بأن الواقع في تركيبه المعقد، وفي شدة تملصه، أو في عناده الحرون، يبدي ممانعة عصية، على أن يؤخذ بين يدي العقل، ويضم إلى أحضان الفكر، ليفحص ويغربل، أو يشرح ويفكك، أو يراجع وينقد، حتى تتمكن العقلانية منه، أو تنبسط على صلبه...

السيد محمد الفاضل حمادوش