مع أخبار الموت تمر لحظات من الزهد في الدنيا أو التعلق فيها أكثر.. الأمر يتعلق بصلة قرابتنا بالراحلين وغالبا بعواطفنا وغرابة المنايا, لكن كيف تجرعنا شعور رحيل آلاف الشباب دفعة واحدة؟!

لم يكن إحساسي آنذاك زهدًا في الحياة ولم أتعلق فيها حتمًا.. كان غصة مشوبة بالخوف, كان وجعًا مغمسًا بمرارة الظلم.. (سبايكر)!! ستة حروف رمتنا في قعر الحزن والترقب.. ماذا سيحل بنا؟

ماذا تخبئ لنا الأيام من غدرٍ قادم؟

بعد سقوط الموصل؛ أي مدينة ستقع في قبضة الغول الأسود؟

من سيثأر للنهر الذي تبدل لا لونه بحُمرة الدم.. أقصد ثأر الدماء ذاتها!!

هل سنعجز ونتفرج على بشاعة ما يجري؟... إلى متى ومن ننتظر؟

وفي يوم غيَّر لون الشمس.. سمعنا إن للعدل فتوى وللجهاد رجاله ولن نكتفي سوى بالنصر.

وكان... الثالث عشر من حزيران موعدًا مع الفداء والنخوة, في تلك الأيام كنت أرى انحسار الذعر من عيون أهلي والناس وحتى من عيني.. لأننا توحدنا بشعور الأمن لاسيما ونحن نتابع أحداث الالتحاق الهائل إلى سمو السواتر.

رجال لم تتوافق أعمارهم ولا مناصبهم, ميولهم, وتوجهاتهم؛ لكنهم أتفقوا على أمرٍ لا بديل عنه (النصر أو الشهادة).

واشتعلت الحرب في رأس العراق وحصدت ما حصدت من أرواح, لستُ أدري إن كان من اللائق أن أقول من حسن حظي إني متسلحة بالقلم في تلك الفترة؛ لأني تكبدت من الألم ضعفين.. كنا نكتب ونوثق باهتمام كل حدثٍ وكل قصة شهيد أو جريح كوننا مسؤولون عن التاريخ ولو بحرفٍ صادقٍ واحد!

لكن.. لم يكن الأمر سهلا, فما كُلفت به وتكفلته كان أكبر من قدرتي على الصبر, كنت أبحث في معلومات الشهداء وبياناتهم الشخصية وحالاتهم الاجتماعية والأقسى من كل ذلك لحظات الاستشهاد وغالبا كانت مفجعة فعدونا لم يكن من جنس البشر, ولا يفقه قانون الحروب, (داعش) لم يكن سوى كابوسا علينا أن نصحوا منه عاجلا أم آجلا, فالأمر لا يقبل المفاوضات والانتظار, ولا يحتمل التأجيل والهدنة ولا يشبه أي حربٍ معاصرة.. لأنهم ببساطة لم يكونوا يريدون قتلنا بشخصنا؛ الأمر أبعد من ذلك, أرادوا قتل الضمير والدين والعلم.. بل أرادوا إبادة كاملة لكل إنسان لا يتحول مثلهم إلى مسخ!

تمر عليَّ تلك الذكريات القريبة وكأنها بانوراما تجسد كل لحظة عشتها وكل دمعة ذرفتها بطعم الحبر.

ست سنوات مضت.. أم ست ساعات؛ وربما ليست سوى لحظات من عمر هذا الكون, أظن علينا بعد هذه التجربة أن نسبق أنفسنا إلى الاعتراف أمام ضمائرنا بأن من قاتل وقُتل على نية الشهادة هو أعظم من بطلٍ, وأكبر نفس تستحق الاستذكار من دون مزامنة للتاريخ؛ يكفي إننا وعلى الرغم من كل المصائب نسير على ارضنا بشعور العرفان والجميل مع هذا الكم الهائل من الاستبداد والغضب, ولكن تظل الفتوى وحشدها الأمين صفحة مليئة بالأحداث المشرقة والصور المشرفة, جزءا من التاريخ لا يتجزأ عن الحق.

إيمان كاظم