( الحلقة التاسعة)

الزمان والمكان

في هذه الحلقة الجديدة سأتناول وحدتي الزمان والمكان معاً  فيما يسمى بـ (الزمكانية) كونهما من الوحدات المتلازمة التي لا يمكن فكاك احداهما عن الأخرى.. ومما لا شك فيه حقيقة كون الفكرة عن الزمان مندمجة دائماً بفكرة المكان والعكس بالعكس صحيح أيضاً، كصورتين فنيتين متداخلة إحداهما بالأخرى بعلاقة تحايثية، ومن ثم بوجودهما المتصل أصلاً بوجود الكون والأشياء كإحدى ركائزه الأساسية.

بيد إن الزمان والمكان يعملان معاً ويؤديان وظيفة ديناميكية كوحدة متصلة في القصة القصيرة، إذ لا يمكن تصور أو تصوير حدثٍ ما، دون التخيل لمكان حدوثه المحتمل أو الفعلي، أو استيعاب زمن منفلت عن أطره المكانية، وعائم خارج محيط واقعه في التصورات الذهنية للمتلقين، ولا نعني بالواقع هنا طبعاً ضرورة أن يكون مثل هذا الواقع على الأرض، فربما يكون في أعماق البحار أو على سطح القمر.

إذ إن المكان الواقعي بمنظوره الوحيد الساكن يختلف عن المكان المفترض في القصة، وإن استند إلى نفس ذلك المكان الواقعي.. إلا إن هذا سيكون ذا أبعاد جديدة بمسحة فنية يعكسها وعي القاص بجمالية المكان، وتصورها قدرته العالية على تحسس المدلولات المكانية من خلال ارتباط القاص بذلك الواقع والانطلاق منه، وبما يحويه مثل ذلك الواقع من دلالات إيحائية، رمزية، تصويرية، تاريخية.. وما الى ذلك من دلالات.

وان تلك بمجموعها ستنبئ عن فضاءات المنظور المعرفي للاستلهام الفني ، وتعكس الرؤية الفلسفية للقاص المبدع في جمالية المكان.

إن المكان ينقسم فنياً على بعدين: واقعي وسردي، إي إن المكان الفعلي للحدث ومكان تصويره وصفياً، وهما بالطبع صورتان لواقع واحد، الأولى جامدة.. فوتوغرافية والأخرى جمالية.. حسّية، وكذلك الحال بالنسبة للزمن إذ إن تقنية النظام الزمني تخضع عادة لمهارة القاص وقدرة الإدارة والتلاعب فنياً بمفرداته..

عبر استخدام تقنيات السرد الحديث، كالقطع وهو عملية اختزال الزمن، ومن ثم القفز والتداعي، أو الانثيال الحر، والرجوع بالزمن فيما يسمى (الفلاش باك) أو الاستباق وهو ما سيكون في المستقبل رغم عدم امكانية بلوغه في المقاسات الطبيعية، لكنه وارد ضمن السياقات الفنية، وغيرها من التقنيات الأخرى، لذلك فإن ما يؤخذ على المنحى الكلاسيكي القديم في فن الكتابة القصصية، كونه يحاكي الواقع في الكثير من أساليبه ويتقيد بها، ويقلد سير الزمن العادي (الميقاتي) دون الاستفادة من تقنيات القص الحديث، وإمكانياته الهائلة كفن قائم بذاته، حيث استحالة قياس الزمن آلياً، لأنه يختلف من شخص لآخر، إذ انه غير خاضع لمجرد العلاقة بين الزمن والحدث.. لارتباطه بقضية الشعور المتحركة أصلاً.

إن الزمن الواقعي (الفيزيائي) غيره في عملية السرد الأدبي في القصة القصيرة.. بل إنهما في الواقع زمنان، زمن الحكاية وزمن السرد، فزمن الحكاية منطقي يسير وفق تسلسله الطبيعي من الماضي نحو الحاضر إلى المستقبل، فلا يمكن التلاعب به خارج أسسه التراتبية، كونه زمن جامد رغم كل الحيوية الكامنة في حدوده الذاتية كزمن متحرك أصلاً.

أما زمن السرد فهو مختلف تماماً وحيوي ومدهش ومفاجئ، فقط لأنه متحرر من جمود تلك القيم الواقعية.. بل يطفو فوقها، وفي ذلك تكمن إحدى أهم الأسرار في جماليات القص وسحره ودهشته، إذ انه يكسر رتابة التتابع الممل لمسير الزمن وبطئه وتسويفه في إعطاء النتائج للأحداث أو عدم وضوحها، بل وعدم الإعطاء للجوابات لمثل تلك النهايات في الكثير من الأحيان، بينما سيكون العكس في السرد القصصي من خلال الإثارة التي تخلقها في الوعي منطقية السبب والأثر المترتب عليه، فالحياة بأسرها عبارة عن أسباب وآثار ونتائج، لكنها غير منظورة.. فلا يمكن تحديد نقطة معينة خاضعة لوعينا ليبدأ منها الزمن أو ينتهي إليها ـ كما في القصة القصيرة ـ فالأسباب والآثار متداخلة.. متشابكة.. مختلطة، حتى لا يمكن فرز حادثة واحدة بعينها من بين هذا الكم الهائل من الحوادث بكل ملابساتها، ليتم الربط بينها وبين سببها للوصول إلى النتائج المثيرة، المحفزة، المفاجئة، لإشباع نهم الفضول أو حب الاستطلاع والمعرفة في النفس البشرية.

وذاك بالحقيقة ما يميز قصة عن أخرى وقاصاً عن آخر.. عبر المقدرة في محاولة التحكم الفني، ومدى التوفيق بقيادة الخيط الزمني الدقيق وربطه بخيط المكان في النسيج الداخلي للقصة (البناء)، ومن ثم شد جميع تلك الخيوط الزمكانية المتلونة بشعور القاص نحو الخاتمة.. بالتخليق لأشخاص وأحداث تنبض بالحياة، لتتشكل في النهاية من خلال سردية القصة القصيرة.. لوحة ذهنية رائعة.

 

طالب عباس الظاهر