الشهيد احمد عبد الحسن خشان

على ضفافِ الذكرى يفتحُ أبوابا أغلقتْ جروحَها تاركةً ندب الحنين ينعى وجعه، يدخل منها سائرا ليغوص هناك حيث يقوده الاشتياق وتحدو به الروح الى تلمس ذلك الطيف الذي احتفظ فيه بين جفنيه كلما أجبره التوق أغمض عينيه، فترسم له  ثغرا مبتسما يلوّح له من بعيد بعدما عانقه العناق الأخير، تخرج هالة نور من تلك اللوحة لتراجع أحداثا طواها الزمن واحتفظ بها الميدان ليبث من خلالها عزمَ أرواحٍ بذلتْ بحبها اسمى البذل.

يفتح مدونة الماضي ليكتب فيها القصة كاملة ( كأنها لحظات تسرق منا من نحب ونحن نقدمه لها قرابا من دون أن نقطع يدها فتسرق وتسرق حتى تذرنا في عالم الوحدة لننتظر الرمق الاخير لنا على يدها، كنا في الثانوية حين أصدرت الفتوى، لم يسعفه عمره للالتحاق لكن الالم كان يتقافز بين عينيه يقرأه من يفهم لغة أحمد المكتومة بالرغم من ابتسامته المعهودة التي أعتبرها شاي الصباح الذي يعيد لي تركيزي، لا أعلم أي موهبة يحتاج الانسان ليخفي ألمه وليحيط من حوله بأمله، حين أُعلن إن الجيش يعاني من نقص عسكري التحق وشاء القدر أن يكون قبوله بعد اسبوعين من تقديمه، وأول حروف خطها فمه: ( اللهم أرزقني الشهادة) هي رزق لا يحصل عليه إلا من سعى اليه بقلب سليم، حافظ على موعد الالتحاق، في كل مرة يهرع الى هناك نخاف عليه من أن لا يعود مرة أخرى فلقد كان عازما الا ان تزهق روحه، لا زلت أذكر كيف يحكي لنا بطولاته كأنه طفل عائد في يومه الاول من المدرسة فرحا تكاد الارض لا تسعه والسماء لا تحتويه، الضابط مرة أخبرني بأنه سأله يوما ما الذي يجعلك فرحا وانت على علم بأنك ذاهب الى الموت ضحك وأخبره أوليس الحسين عالما وعارفا بأنه سيموت لكنه خطى قدما بدون تردد يومها حضنه قائل رحم الله كفّ رباك وحينها عرف الضابط بأنه فقد امه منذ فترة وجيزة، رحمها الله فكانت لا تقل عنه تواضعا، لا زلتُ أذكر حين اتصلتُ به منتظرا عودته حينها أخبرني بأن لن يرجع للاستراحة فقد أسرت داعش ثمانية من أصدقائه حينها سالته: احمد أنتم لا تملكون العتاد والعدة أجابني بغضب: ما بكم جميعا نحن نملك الشجاعة وحب الشهادة والايمان، ودعته بدعاء كي لا أكسر عزمه علمتُ بعد حين أنه قام وسط زملائه قائلا من يريد أن يأتي معي لنحررهم فليتفضل فأنا ذاهب لأحررهم حتى لو كنت وحدي، حينها ذهب مع ثلاثة شبان من بابل.. أخبرني بعد عودته إنه تملكه الخوف لبرهة خوف من أن يعود خالي الوفاض، لكن مقابل ذلك شعر بقوة خفية تتملكه فتربط على قلبه، يومها عادوا محررين منتصرين حين رفعه الجنود على أكتافهم مهللين

لحظة الارتفاع تلك شعر فيها بحنين الروح الى السمو فتقاطرت دمعة الفرح من عينيه علها تطفئ صدرا أشعلته الحسرة للشهادة.

عندما عاد فكرنا بأن نربطه بالأرض خصوصا بعد أثر الرصاصة خلف أذنيه وفي يديه من جراء هجومهم، فأقنعناه بالخطبة فتم عقد قرانه يوم 19/1/2017 وقد التحق بعد يوم من عقده الى ساحة القتال لم يستمر فرحنا به لثلاث أيام حتى فجعنا بخبر استشهاده عندما أمطرت عليهم القذائف العشوائية فعرجت روحه الى سماء الباري، لم يكن وقع الخبر بهين على ابناء المنطقة فلقد هرعنا لاستقبال جثمانه وصل موكب الشهداء والكل يترقب لحظة لقاء أهل الارض بأهل السماء، كنت كثيرا ما أشكك في مَن ينقل لي أن رائحة دماء الشهداء زكية فأقول الدماء تبقى دماء!

حتى رفع الغطاء عنهم في المغتسل كنت قريب جدا عندما لامست أنفي تلك الرائحة لم أصدق إني أمام شخص غطته الدماء، سرت القشعريرة في جسمي وانا اتزود من تلك الرائحة لم أصدق حينها بل ايقنتْ بأن الدماء التي تسفك في سبيل الله يزكيها، سالت دموعٌ خجلى من موقفي حيال دمائهم رفعوا الشهداء بدمائهم وبثيابهم وانطلقنا نحو وادي الأمان حيث ترقد الاجساد وتحلق الاروح الى عالم آخر أنقى من عالمنا، حينها لم أشعر بما حولي وما اوقف ذهني هو تلك الرائحة وابتسامة أحمد التي بقيت على ثغره حتى بعد استشهاده حيث بقى ويبقى يبث الأمل بمن حوله مهما تباعدت الازمان والمسافات سيبقى ترتيلة حب تحتضن من يقرؤها)

كتب عبارته الاخيرة تلك وأرسلها الى من يحتويها علها تُدون في أعماق الذكرى صفحة حبٍ يترنم بها التاريخ، وتزهو به

ساعات الزمان، وتسجل نقطة نور في عتمة العصر.

ضمياء العوادي