الحلقة الرابعة

كان بشر بن سليمان النخّاس من الذين أنعم الله عليهم بحب أهل البيت وموالاتهم وكان يسكن قرب دار الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء ــ وهو من أحفاد الصحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري رضوان الله عليه ــ وقد دان لهم بالولاء معترفاً بفضلهم عليه, ومن قوله في ذلك: (كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري (عليه السلام) فقّهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلاّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كمُلت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام)..

وذات ليلة فوجئ بشر بطرق على الباب فلما فتح الباب وجد كافور ــ خادم الإمام الهادي ــ على الباب وهو يقول له إن الإمام يريد حضورك الآن.. فلما دخل بشر إلى بيت الإمام وجده يحدّث أبنه أبا محمد الحسن (عليه السلام) واُخته السيدة حكيمة (عليها السلام) من وراء الستر فعرف أن هناك أمراً هاماً استدعاه من أجله فبقي بانتظار فراغ الإمام الهادي من حديثه وما إن فرغ وجلس بشر حتى قال له الإمام:

يا بشر: إنّي مُزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأن الشيعة في الموالاة بها: بسرّ اُطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمَة ثم كتب (عليه السلام) كتاباً بخط رومي ولغة رومية وختمه بختمه الشريف وأخرج كيساً فيه مبلغ مئتين وعشرون ديناراً وقال له: خذها وتوجّه بها إلى بغداد، وأحضر مَعْبَر الفرات ــ وعين له الوقت ــ فإذا وصلت إلى جانبك السبايا، وبرزن الجواري منها، بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس، وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها.. ــ ووصف الإمام لبشر صفة نرجس ــ ، لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمْس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس، فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه.

ثم بيّن الإمام لبشر كيفية شرائها وكأن العملية تتم بالصدفة لكي لا يلفت أنظار الحضور إلى اهتمام بشر لشرائها خشية من جواسيس بني العباس خاصة إن بشر معروف لديهم بأنه من موالي الإمام الهادي (عليه السلام) فوصف الإمام له كيفية شرائها حرفياً وحدد له المبلغ الذي يشتريها به كما حدد له الزمان والمكان فقال له:

فيقول بعض المبتاعين: عليّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة.

فتقول الجارية بالعربية: لو برزت في زيِّ سليمان (عليه السلام) وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك.

فيقول النخّاس: فما الحيلة، ولابدّ من بيعك؟.

فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته.

فعند ذلك قُم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنّ معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف، كتبه بلغة رومية وخطّ رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، واستأذن منه أن تقرأ الجارية الكتاب لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.

ففعل بشر ما أمره الإمام حرفيا فنظرت الجارية في الكتاب بلهفة وكأنها وجدت ضالتها وفوجئ بشر وهو يرى دموعها تتساقط على خديها وهي تقرأه ثم قالت لعمر بن يزيد النخّاس بلهجة رجاء ممزوجة بثقة: بعني إلى صاحب هذا الكتاب، وحلفت بأنه إذا امتنع من بيعها إليه قتلت نفسها.

فوافق عمر على بيعها خوفا من تنفيذ تهديدها ووعيدها فيمنى بخسارة ثمنها فماكسه بشر في ثمنها حتى استقر رأي الطرفين على المبلغ الذي حدده الإمام الهادي (عليه السلام) وهو مائتان وعشرون ديناراً

ما كادت نرجس تبتعد مع بشر عن النخاس حتى أخرجت الكتاب الذي أعطاها إياه بشر وهو كتاب الإمام الهادي (عليه السلام) وقبّلته ووضعته على وجهها وهي تشمّه فتعجّب بشر منها وما فعلته ولم يتحمل دون أن يسألها: أتقبلين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟ فسكتت قليلا ثم قصّت عليه قصّة رؤياها الثلاث وإنها غيّرت اسمها عندما سألها الرجل الذي أسرها عن اسمها فقالت له نرجس لكي لا يعرفها أحد وإنها أخبرته بكل ذلك لأنه رسول الإمام الهادي فلا أحد يعرف أنها ابنة ملك الروم سواه فازداد عجب بشر منها لأنها تكلمه بلغته فهي تجيد اللغة العربية بطلاقة فقال له: العجب إنك رومية ولسانك عربي؟

وكأنها كانت تنتظر منه هذا السؤال فقالت له: اهتم جدي كثيرا بتعليمي الآداب بلغ من اهتمامه لي على تعلمي اللغة العربية وخصص لي معلمة لذلك فكانت تأتي إلي كل صباح ومساء فتعلمني ويوماً بعد يوم أصبحت العربية لغتي الثانية أجيدها كما أجيد الرومية وكأن جدي كان يعلم إني سأسير إلى هذه البلاد أو كأن الله قد أرشده إلى ذلك.

كان الإمام الهادي جالساً في بيته ومعه ابنه الإمام العسكري وهما ينتظران قدوم بشر النخّاس وفيما هما جالسان إذ دخل الخادم وأخبرهما بقدوم بشر فأذن له فدخل ودخلت خلفه جارية ملتحفة بزي الجواري وهي مطرقة إلى الأرض باستحياء فنظر إليها الإمام وتبسم وقال وكأنه يخاطب نفسه: هي والله...

محمد طاهر الصفار