(الحلقة الاولى)

إنها الروحٌ التي تكللت بشذى بيت النبوة واستنشقت عبق الإمامة، صاغها الله من نورهم فخفق قلبها بحبهم وسارت على خطاهم بوجهها المضيء وأنفاسها المطمئنة، فتشاء إرادته (جل وعلا) أن تنتقل إلى أشرف وأطهر بيت في الوجود بيت العترة الطاهرة، فتغذّت من عقيدته وسُقيت من نوره، واقتبست من وحيه، وتوهجّت أنفاسهما بالعقيدة والإيمان كما تتوهّج الأزهار بقطرات الندى، فكانت منه وإن جاءت من أرض غير أرضه.

لقد خص الله هذه المرأة العظيمة بخاصية لم يخص بها غيرها في عصرها وأكرمها بكرامة لم تنلها سواها في زمانها فاصطفاها لتكون أمّاً للمصلح الأعظم والمنقذ الأكبر الذي تنتظره البشرية وتتطلع لرؤيته عيون المؤمنين ويتشوق المستضعفون في الأرض إلى طلعته الغراء لينقذهم من جور الجبابرة وظلم الطواغيت, فهيأ الله لهذه المرأة وشرفها بأن تلتقي بأحب الخلق إليه سليل الصفوة من آل محمد (عليهم السلام) فتمسكت بحبلهم وتوثقت روحها بحبهم حتى خالط روحها ودمها.

هكذا اقتضت الحكمة الإلهية أن تنتقل هذه الفتاة الطاهرة إلى هذه البيئة الطاهرة لتقتبس من هديها وتنهل من منبعها تستضيء بهم بنور الله.. نعم إنها مشيئة الله أن تخوض هذه الأميرة الرحلة البعيدة الشاقة لتتشرف بهذا الشرف, لقد تحققت النبوءة التي أوقدت في روحها بوصلة الهدى فتبعتها بقلبها قبل قدميها تحثها (جاذبيته).. فتحسّ بانتمائها إليه وتتوق له, وتسترجع صداه في نفسها وقلبهِا وروحهِا ووجدانها وقد كللها بالخلود... أحسّت أنها أميرة حقاً بعد أن غادرت القصر الذي فقد معنى الحياة وسادت أجواءه أنفاس المطامع فخرجت لتلبي نداء القلب الذي أنقذها وكأنه مدّ يدَاً لينتشلها من جرفِ سيلٍ عارمٍ، أو شفا وادٍ سحيق.

لقد رسمت مسارها بإدراك كامل, ووعي تام, وسارت عليه, متحدّية كل ما يواجهها من أخطار لتتبع الصوت الذي يقودُها إلى دورها واسمهِا، وكيانهِا، وانتمائها ووجودها.... فلم تكن واثقة طوالَ حياتهِا بخطواتٍ تخطوها كهذه، حتى أحسّت أن الأرض كانت تحثّها على ما نوت عليه، فكان سير قافلة الأسرى يسابقُ دقّاتِ قلبهِا....

وأخيراً ها هي الواحةُ النبوية السماوية تشيرُ إليها بأفيائها وسطَ هذا التيهِ......

كان شلالُ الطمأنينةِ ينسابُ إلى قلبهِا الوالهِ... لقد عانقت الأملُ الذي يشعُّ في عتمة الروح.

مليكة أو نرجس

وُلدت السيدة نرجس في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية وذلك قبل عام (240هـ) ــ أي نهاية القرن التاسع الميلادي ــ وكان اسمها قبل أن تأتي إلى بلاد الإسلام (مليكة) وهي بنت يشوعا حفيدة قيصر ملك الروم ويرجع نسبها من أمها إلى شمعون وصي عيسى ومن حواريه.

ومن أسمائها نرجس الذي عرفت به, وريحانة, وسوسن, وصقيل, ومريم, وخمس, وحكيمة, وسبيكة, وكان السبب في تعدد هذه الأسماء هو الأوضاع السياسية والضغوط السلطوية التي مارسها العباسيون ضد أهل البيت (عليهم السلام) فتسمَّت بأكثر من اسم لكي تموّه على السلطة معرفتها لأنها ستلد الإمام الثاني عشر (عليه السلام), فلما أسرِت سمَّت نفسها نرجس ولما حملت بولدها سُمِّيت صقيل وحين ولدت وليدها كُنيت به أمّ محمد لكن اسم نرجس كان أشهر الأسماء لها والذي عرفت به والظاهر إنه اسمها الحقيقي كما سماها به المسعودي (1) كما ورد هذا الاسم في الروايات المعتبرة عن السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي وعمة الإمام العسكري حول ولادة الإمام القائم المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) وكما أوردها المجلسي.

وليس ببعيد أنها تسمّت بكل هذه الأسماء بسبب الظروف العصيبة التي عاشتها في بيت الإمام وتعرضّها للمخاطر من قبل السلطة العباسية للتمويه كما ذكرنا فهي منذ أن أسِرَت أصبح اسمها نرجس ولم تذكر اسم مليكة لأحد, أما الأسماء الأخرى مثل سوسن وريحانة فهي من الأسماء المشاعة للجواري في ذلك الوقت يسمونها بها دلالة على الحفاوة بها وحظوتها عند أسيادها وهذه الأسماء لها دلالتها على مدى تكريم بيت الإمام الهادي (عليه السلام) لنرجس فهي من أسماء الزهور ومن الأسماء المحببة إلى النفس كما تدلّ هذه الأسماء المتعددة إلى حالة المراقبة الشديدة من قبل العباسيين لبيت الإمام فاستعملت هذه الأسماء لكي يظن من يسمع بها بأن في البيت إماء عديدة ولا يخطر على باله إنما هي لجارية واحدة.

محمد طاهر الصفار

...........................................................................

1 ــ إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب ص 258

2 ــ بحار الأنوار ج 51 ، ص2