حينما يشعر الإنسان بوجع وحاجة الآخرين بعد أن ذاق مرارة الوجع والحاجة ذاتهما يكون قد وضع قدمه على أول طرق السعادة كونه سيكون بلسما وملاذا لكل من حوله وحتما سيؤدي ذلك إلى شفاء جراحاته من قسوة الحياة, فالشعور بالفقد والإحساس بمسؤولية رعاية الأيتام ليس بالأمر الهين و(أم حسين) المرأة الاربعينية أثبتت جدارتها بأن تكون رقم مهم في معادلة التميز فهي أيقونة في عالم العطاء والبذل من أجل مساعدة الأرامل والأيتام وممن ضاقت عليهم سبل العيش الكريم.

عاشقة الخير

(سهاد قاسم محمد) اسم كُتب ضمن قوافل الأرامل التي لا تتوقف والممتدة بتضحياتها في زمن العنف والفوضى.. استشهد زوجها أبان الطائفية المقيتة على أساس المذهب والعقيدة مخلفاً أربعة أبناء، ثلاثة أولاد وبنت، طرق ألم الفراق والوحدة والحاجة بابها مبكراً وهي ما زالت تنتظر نضوج ثمرة عمرها لتراهم حولها يشاركونها كل لحظات وأيام حيرتها وعذاباتها .. ويدركون مسؤوليتهم وما عليهم أن يقدّموا لهذه الأم التي أذبل فراق الزوج الحبيب عيونها وترك فراقه غصّة في قلبها فكانوا كما حلمت بهم.. أبت سهاد إلّا أن تنهض من جديد وترسم لعائلتها صورة مشرقة للأمل والحياة، قاومت وتحدّت كل الظروف التي تقف حاجزاً أمام مستقبلها وأولادها، تمسكت أولاً بالاستقلالية في بيت خاص بها لتخطط لحياتها بعيداً عن تدخّلات الآخرين، ثقتها الكبيرة دفعتها إلى التصميم على إكمال الدراسة, واصلت بحزم ذلك القرار ونالت الشهادة الجامعية في إدارة الأعمال، لتكون إحدى الموظفات في دائرة تسويق الأدوية ضمن ملاك وزارة الصحة.

تعايش ومحبة

الاستقرار السكني حلم يراود غالبية الأرامل، ومن نعم الله على البعض منهن التفات الخيرين إليهن، تمكنت أم حسين من الحصول على كرفان صغير في مجمع الوفاء الذي وزع في أواخر العام 2007 مع العديد من العوائل الفقيرة غالبيتهن من الأرامل اللواتي قسى الدهر عليهن..  من هنا ومن قصص العوز واليتم والحاجة والمرض بدأ شلال العطاء يتدفق نحو البذل والمساعدة والبحث عن أيادِ الخير وقلوب الرحمة التي تسأل عن المعوزين وتجود عليهم، صارعت الزمن وطافت أرجاء المدن وطأت أقدامها منظمات المجتمع المدني لتجلب للأيتام والأرامل والذين تعدهم عائلتها وتدرك مرارة الحاجة للقمة العيش والمساعدات بشتى أنواعها,

عرفت بأم الخير وتابعت كل صغيرة وكبيرة داخل هذا المبنى المتواضع.. صار منزلها الخشبي الصغير محط أصحاب الحاجات تدوّن أسماءهم واحتياجاتهم ثم تضعها أمام أنظار المتبرّعين والمساندين لأوضاع الأسر المتعففة من المؤسسات الخيرية والمتمكّنين وهم لا يبخلون في هذا الجانب ولا يبغون الإعلان والظهور.

لم يكن لديها وقت لتضيّعه في زحمة هذه المتطلبات والمسؤوليات، تقضي أغلب وقتها وبعد ساعات الدوام في إيصال المعونات إلى أصحابها، تزرع البسمة والأمل في الوجوه المتعبة وتجدد الفرحة لأولئك الذين غادرتهم الضحكة  منذ رحيل الأب .. لديها إحصائيات دقيقة عن عدد العوائل الـ” 152” الساكنة في المجمع والأرامل الــ “ 65”  والأيتام الـ” 180” إضافة إلى عشرين معوّقاً .. هي وسيطهم وممثلة عنهم في اجتماعات المجالس البلدية وفي الجمعيات الخيرية، فهي أقرب الناس إليهم تتعايش مع أوضاعهم المزرية داخل نطاق المجمع التي تسكنه ..فالروابط الاجتماعية بين القاطنين هناك لعبت دوراً مميزاً في إبداء روح التعاون والألفة... كلهنّ أمّهات لأيتام وكل الرجال أشقاؤهن. . هذا التعامل الإنساني كثف فرص التعايش والحب وخدمة الآخر .. كانت أم حسين محور اللقاءات الودية والتزاور بينهما من أجل زرع الشعور بأن جميع الذين في المجمع هم عائلة واحدة تربطها هموم مشتركة. 

أحلام لا تتوقف

هذه المرأة القوية بإرادتها وتصميمها على مشروعها الخيري كانت منظمة مجتمع مدني متكامل.. أفنت زهرة شبابها في العمل التطوعي بالأفعال وليس بالكلام, أثبتت للفقراء إنها ايقونة النخوة والشهامة في هذا الزمن الضبابي.. أحلامها وخطوطها للوحة التعايش ما زالت مستمرة نحو رسم صورة التكافل الاجتماعي لإنقاذ العشرات من الايتام من سطوة العوز والذل.

سعاد البياتي