بدءاً ومع اعتراضي على هذا العنوان الذي ثبته هنا، إلا إني اضطررت اليه اضطراراً، وهذا طبعاً لأسباب سأحاول التطرق اليها لاحقاً.. كوني أدرك جيداً بأن مثل هذا العنوان كأنه يتعامل مع القصة القصيرة بآليات مهنية، ويتعاطى معها على إنها عمل يدوي ميكانيكي لا غير، وكما في قولنا مثلاً: كيف تصنع شباكاً أو محركاً؟

وهو ما يتنافى تماماً مع كينونتها الإبداعية، ويتعارض مع حقيقتها الفنية كون الفن وليد الموهبة.. والموهبة لا يمكن تعلمها بالدرس أو حتى اكتسابها بالخبرة.

أو كأن يكتب أحدهم موضوعاً مثلاً تحت عنوان:( كيف تتعلم كتابة القصة!)

وأقول لهذا ولأمثاله.. وهل القصة تعلم؟!

بمعنى، إذا قرأ مثل هذا الموضوع ألف شخص برغبة صادقة للتعلم؛ هل جميعهم سيكونون قصاصين مثلا؟ هل يعقل مثل هذا الأمر؟!

مع الأسف فإن مثل هكذا عناوين يطلقها بعضهم تنم عن غفلة وعدم فهم بالأساس للفن بصورة عامة وللقصة بصورة خاصة، كون هذا البعض إنما بطرحه يحاول التغافل، بل التجاوز على ماهية القصة القصيرة الأدبية/ الإبداعية، وقبل ذلك الفنية .. إذ إن الفن إبداع، أي من البدعة.. والبدعة: هي اِبْتكار مَنحًى جَديد في الفِكر أو العِلم، ومثل هذا الابتكار قطعاً لا يمكن اخضاعه لمقاييس وأسس محددة؛ أي كيف يمكن تعليم طرائق الابتكار.. ولماذا لا يستغلها المعلم ذاته في إبداعه قبل أن يصفها للآخرين؟ وإذا وصفها حينئذ هل تعد بالفعل من الإبداع؛ أي الابتكار؟!

هذا يذكرني بطريفة بائعي أحجار الرزق، إذا كانت هذه الأحجار فعلاً تجلب الرزق؛ لماذا بائعها إذن لا تغنيه؟ ولماذا يفترش الطرقات كالمتسولين!!

لكن مع كل ما سبق تبقى هناك أطر عامة للكتابة القصصية الإبداعية، حدود واسعة يمكن تأشيرها وتثبيتها من أجل معرفة محددات هذا الفن الأدبي الجميل، إذ لا يمكن لفن أن يقوم دون أطر وحدود عامة تضبط شروطه، وهذا ما نوهت اليه منذ البداية واضطرني للعنونة، وبالتالي لكي تضيء مواطن العتمة في ذهنية المتلقين.. خاصة ممن يطمح أن يكون قاصاً في المستقبل.. لذلك هنا سأحاول الدخول الى ماهية مثل هذه الأليات اللازمة في كتابة القصة القصيرة، وسأتناول بحلقات قادمة إن شاء الله وبشيء من التفصيل الوحدات اللازم توفرها في كتابة القصة القصيرة كالإهداء والمقدمة والعنوان والاستهلال (الافتتاح) والبناء ( الحبكة) والعقدة والشخصية والمكان والزمان والحدث والصراع والحل ومن ثم أخير الخاتمة ( القفلة).

في البداية وقبل الدخول الى صلب موضوعنا لهذه الحلقة، لعله يبرز هنا ثمة سؤال جوهري، قد لا يشبه الكثير مـن الاسئلة الأدبية المتداولة، وتحديداً حول كيفية تشكّل القصة القصيرة في نفوس القصاصين أساساً؟ أي كيف يولد الإبداع القصصي؟!

للجواب أقول، هناك ثلاث مراحل نفسية يمر بها القاص قبل كتابته القصة.

أولاً. مرحلة التأثر والانفعال بموضوع القصة.

ثانياً: مرحلة معاناة نفسية وروحية يعيشها القاص لموضوعه.

ثالثاً: افراز هذا الموضوع وهذه المعاناة وصبها في القصة.

أولاً: مرحلة التأثر والانفعال بموضوع القصة.

على سبيل المثال رؤية امرأة كبيرة في السن تسقط على الأرض أو تدهش بسيارة في الشارع .. ربما هذا الحدث يمر على الكثيرين مروراً عابراً، بمعنى ينساه بمجرد انتهاء الحادث وتركه المكان، لكنه قد يكون له وقعاً كبيرا وعاصفاً وغير متوقع على القاص.. كونه فنان مرهف الشعور، خاصة إذا ما صادف وحضرته مع هذا الحدث ذكرى مؤلمة عايشها القاص مع والدته المتوفاة مثلاً؛ أي إن الحادث قد أجج في ذاته لذكريات قديمة عايشها القاص.

ثانياً: مرحلة معاناة نفسية وروحية يعيشها القاص.

في هذه المرحلة يبدأ هاجس حادثة المرأة العجوز في التفاعل في ذات القاص، يتفاعل في عقله وقلبه معاً، لأنه أساساً تأثر بالحادث منذ الوهلة الأولى، ومازالت آثار المعاناة النفسية لحظة شهد الموقف عالقة في نفسه، ومن ثم يبدأ الحدث بأخذ حيزاً أكبر وأكبر في وعي القاص وفي ذاكرته، وتتراكم حوله التفاصيل المشابهة حتى يشكل هاجس قلق وتوجس داخل القاص وفي لا وعيه، ومن ثم يشكل عبئاً نفسياً عليه.

وطبعاً قد يكون تطور هذا الحدث ونموه التدريجي عبر مراحله الآنفة الذكر قد تطول لسنوات أو ربما للحظات فقط.. هذا الأمر غير خاضع لمقياس محدد سوى الطبيعة التكوينية لشخصية القاص ومدى تأثره بالموضوع.

ثالثاً: افراز هذه المعاناة وصبها في القصة.

وهذه المرحلة هي من أشد مراحل الإبداع تعقيدا وغرابة، إذ أن ما تشكل ونما وتراكم داخل لا وعي القاص، قد وصل لمرحلة النضج الآن، ويجب استقبال لحظة ولادته، وهي لحظة ليست كباقي اللحظات، ومدى نضج القصة في شعور القاص سيكون المسؤول عن تحديد لحظة الولادة وكيفيتها ومكانها وزمانها، حيث إن هناك طقس خاص لكل قاص يحدث فيه المخاض والولادة، لقذف ما ناءت بحمله نفسيته وروحيته طويلاً، من أجل التخلص من عبء معاناته .. وقد تداهم القاص مثل هذه اللحظة وهو في سوق شعبي أو السيارة او.. أو .. أو ....  وما أن تسيل مشاعره ممزوجاً بحبر قلمه حتى تعقبها نشوة غامرة هي بطعم نشوتين.. نشوة التخلص مما ناءت به نفس وروح القاص طويلاً من معاناة وألم، وكل تخلص يصاحبه عادة مثل هذا الشعور الجميل، ومن ثم نشوة الإنجاز لنص أدبي جديد.

طالب عباس الظاهر