هبطتُ السلالم مسرعةً أتعثر بارتباكي، محاصرة بالوقت الذي لم يتبقَ منه سوى ساعتين فقط.

- أمي أنا ذاهبة

- ولكن لم تأكلي شيئاً

- لا أريد.. لا أريد  

- طيب.. ألن تأخذي مريم وملاك معكِ؟ فأنا سأذهب لعيادة زوجة عمكِ المريضة وأختكِ ذاهبة إلى السوق ولن يبقى أحد في المنزل ليرعاهن إن غبتِ.

- لا استطيع فالوقت يداهمني.. أنظري إلى الساعة، أمي اذهبي ولا تقلقي فمريم كبيرة تستطيع الاعتناء بأختها لحين عودتي، أنا لن أتأخر إن شاء الله.

- إذا كنتِ تنوين الذهاب لرؤيتهِ لما لم تجهزي نفسكِ مسبقاً وتتداركي الوقت كي لا تركضي هكذا كالمجنونة.

- تعلمين أني أعود منهكةً من العمل وأحتاج لقسطٍ من الراحة والنوم، وهذا ما أخرني عنه. والآن علي الذهاب إلى اللقاء.

أُنهي حديثي وأنا أوصد الباب خلفي، وأركض مسرعةً أستأجر سيارة تقلني إلى بيت خالتي الذي يبعد عن بيتنا مسافة تقطعها السيارة في ربع ساعةٍ تقريباً صرتُ أستعجل السائق الذي بدا لي بطيئاً جداً.

لا أعرف ما هو شعوري حقاً.. لكن قلبي ران عليه الحزن لدنو رحيل إبراهيم الشاب ذي الضحكة الواسعة والوجه الصبوح الذي ازداد وسامة مع حلول ربيع العمر.

الطريق لم يكن يوماً بعيداً هكذا كما شعرتُ اليوم، لكنه أمهلني لحظاتٍ لاسترجاع كل الذكريات التي استوطنت قلبي منذ طفولتنا إلى الآن، فهو ابن خالتي وبمثابة أخي الصغير الذي طالما أحببته وتمنيت أن أراهُ زوجاً وأباً.

حتى أن أمنياتي وخيالي وصلت إلى شيخوخته، فقلتُ له ذات يوم وهو يتمازح مع والدتي كعادته: إبراهيم كيف سيصبح شكلك يا ترى إن أصبحت كهلاً طاعناً في السن؟!

أطرق قليلاً ثم أجابني: سأصبح (جدو) وأعقب كلامه بضحكةٍ طويلةٍ كما هو معتاد.

من الواضح أنني لن أراه كهلاً كما أتمنى، ومن الآن عليَ أن أتعود على خزن صوره في أرشيف ذاكرتي مع صور الأحبة، برفقة كل من بات لزاماً علي مفارقتهم بأحكام هذا البلد القسرية إما بموتهم أو هجرتهم، وفي كلا الأمرين غصة الفراق واحدة.

يا الله.. ما هذه الأفكار، ما الذي دهاني وهل الموت كالهجرة؟ الحمد لله أن إبراهيم نالته النائبة الثانية، همستُ لذاتي بخوف (إن شاء الله عمرهُ طويل)

وصرتُ أعاتبهُ في سري كأنه يجلسُ أمامي .. لما هذه العجلة فطائرتكَ تقلع في تمام الثالثة والنصف صباحاً والوقتُ طويل أمامك، لما تريد الذهاب الى بغداد منذ الثامنة مساءً؟ أتستعجل الرحيل ستشبع من الغربة ومن الشوق لإخوتك ووالدتك.. خالتي المسكينة.

حديث النفس طال لدرجة أنني أضعت الطريق وتجاوزتُ مكان بيتهم، فانتبهتُ أخيراً لغفلتي وطلبتُ من السائق متأسفة أن يرجع لأنني لم أنتبه أننا تجاوزنا المكان المطلوب..

وصلتُ أخيراً... دخلتُ مسرعة حتى خيّل إلي أنني لم أعطِ أجرة السائق لشدة قلقي وارتباكي.

كان البيتُ صامتاً على غير عادتهِ.. شعرتُ برحيله لكن قلبي أنكر ذلك فأنا لم أتأخر لهذه الدرجة، أزحتُ ردن العباءة عن معصمي ونظرتُ في ساعةِ يدي، إنها السادسة والنصف، نعم.. لا يزال هناك وقت.. ساعةٌ ونصف لتوديعِهِ وإعطائهِ بعض نصائح الأخت الكبرى (انتبه لنفسك وحاذر الناس فهناك المجتمع وعاداته تختلف عن العراق، اهتم بطعامك، خذ معكَ ملابس ثقيلة فالجو بارد جداً في روسيا و.. و..) الكثير من الوصايا التي يمليها عليَ قلبي.

لكن ما هذا الهدوء الذي يسكن منزلهم على غير عادته، فدوماً كنت أعلم بوجوده قبل أن أراهُ سيما مع ضحكاته ومزاحِه..

طرقت الباب الداخلي للمنزل وفتحت لي أخته بوجه متجهم، لم يخطر ببالي أن القي التحية حينها لم ألفظ إلا سؤالاً واحداً: أين إبراهيم؟!

رأيتهم جميعاً يقفون أمامي ترحيباً كعادتهم إلا هو.. أين أخي الصغير؟

أجابتني دموع خالتي برحيله، فالسائق الذي أقله إلى المطار قَدَمَ موعد الرحيل بضع ساعات تحسباً لزحام الطريق وتأهباً لكل طارئ.

- متى ذلك؟! ألم تخبريني أنه سيرحل في الثامنة أردتُ أن أراه.. كنتُ أتوق لرؤيته  لما حظّي قليلٌ هكذا حتى مع ساعات الرحيل، ولما الدنيا كلها تشجع على رحيلهُ حتى سائق الأجرة الذي لا يدري كم نتمنى لو يبقى معنا لبضع دقائق أخرى؟! 

نعم .. هو لا يعلم كم تعني لنا تلك الدقائق قبل الرحيل المحتوم.. لم أتمالك نفسي عن البكاء ولم أدرك أني أزيد الأمر سوءاً على خالتي الموجوعة.

لما اتصل عليه وكأنني أعانقه للمرة الأخيرة وأخاطبه كطفل صغير:

"عزيزي أين أنت لم ذهبتَ مسرعاً هكذا أردتُ رؤيتك، ثم أختنق بدموعي وأوصيه بكل ما يخطر بقلب الأم وأحصنه بجميع الأدعية.. بكيت وأبكيتُ من حولي، ثم بعدها جلس كلٌ منا مستسلماً للصمتٌ المربك والدموعٌ المختنقة لساعات حتى قالت خالتي مخاطبة إياي:

"أرأيتِ.. أنا لن أرتاحَ أبداً .. فهل علي أن أهدي لهذا الوطن كل أحبائي الواحد تلو الآخر؟! أولاً زوجي(محمود) قتلوه غدراً وكعادتهم الصقوا جريمة قتله بوجه الطائفية، وها أنا كما ترين تركتُ كل شيءٍ بعده، احتضنت  أولادي وبناتي متوجهةً بهم الى كربلاء كي نعيش بسلامٍ آمنين مطمئنين تحت أشعة القباب المقدسة،  فربيتهم تربية صالحة بأرق الليالي ومضاضة الأيام، لكن ما الجدوى؟

فبالنتيجة كبروا وبدأوا يحلمون بمستقبل أفضل وبحياة أخرى غير ما قاسيناه نحن لأنهم وبطبيعة الحال لا يمتلكون صبرنا، إذاً أنا لا ألومه كيف لا يهاجر إبراهيم وهو لا يرى بصيص أمل في مستقبلهِ المجهول؟! خاصةً بعد أن تخرج من الجامعة فواجه الحياة الحقيقية وأصبح كل شيء على المحك، الطموح يشده للمستقبل والمستقبل هنا كعادته يدير ظهره إليه.

ففرصة التعيين بدخل يكفيه كان أول المستحيلات، والزواج وتكوين أسرة مع فتاة مؤمنة أضغاث أحلام، ومن جملة المستحيلات الأخرى أن يستطيع معادلة كل ذلك بالإضافة لمساعدتي في مصروف العائلة من الدخل البسيط الذي توفره له حرفة (عامل بناء) سيما أنها المهنة الوحيدة المتوفرة أمامه، لذا قرر كبقية الشباب الهجرة نحو مجهول محمود العواقب، تقول مستدركة صفة جيدة في غيابه.. الحمد لله أن ولدي هاجر بصورة شرعية، لا كمن أخذ البحر أرواحهم كشرط جزائي بدل تأشيرة الدخول، الحمد لله أن إبراهيم قَدَمَ لدراسة الماجستير في دول أوروبا مع بعض أصدقائه في رحلةٍ عن حلمٍ أزرق".

أخيراً ساد الصمت من جديد، وكعادتها الدموع بدأت وحدها تتحدث.. فمن ذا يفوقها قدرة على ترجمة الأوجاع؟!

 

نغم المسلماني