وقفت على حافة الطريق ، وعلى مقربة من سمعي ، حثيث خطى ... وثمة أصوات ، وخيول النظر مني شاردة الى تلك الجموع التي تنحدر كسيل المطر على حافة واد عميق ! نعم ... أراهم متعبين لكنهم مقبلين ، منهكين لكنهم طائعين ... لم تثنهم مشقة الرحلة ، وﻻ طول المسافة ، عن تلبية النداء ، والوصول الى المراد ، والوقوف امام كعبة العاشقين ، لتكتحل عيونهم ببريق القباب وتطمئن أفئدتهم بآهات الثائرين ، وتسمو نفوسهم بالعهد والوﻻء لملهمهم .

أطرقت برأسي الى اﻻرض ، حيث موضع قدمي ، أغمضت عيوني ... كي أسافر بخيالاتي ، مئات السنين ، حيث يوم عاشوراء الحزين ، لم أطق صبراً عن ما رسمته مخيلتي لمشهد الفجيعة وصور الأشلاء الطاهرات والفواطم المخدرات ، وعويل اليتامى ، ورائحة الخيام المحترقات ، وبقايا أقراط ودماء ، وربما قماط هنا وحروف مصحف هناك ، وأقمار مشالات على أسنة الرماح ، يحدوها زنيم ، حتى شعرت بقبضة من حديد تعتصر قلبي ، لينفجر زمزم دمعي مطرا ، كأنه يواسي الحورية الأنسية في عظيم مصابها بولدها المظلوم .

ما كان لي بعد هذا ، اﻻ أن انضم لقافلة الحزن هذه ، واركب موجة آلمي في سفر الخلود مع هذه الحشود المباركة ﻷعّظم شعائر الله ، سائرة بدرب العشق الحسيني ، ملبية خاشعة ، معفرة جبيني بذهب التراب المقدس الذي تثيره خطوات الوالهين .

يغمرني العجب لما يقدمه هؤلاء الملوك الخادمين ، فحيث يرون انفسهم خدما ويفتخرون بـ " نحن خدام الحسين" يراهم الرائي منا متوجين ملوكا وملائكة .

المشاهد تترى ، واستحضار الزمن يفرض نفسه عند كل مشهد ، الا ان مشهدا أليم قد استوقفني مكبلا قدمي ، شاخصا ببصري نحوه ... طفلة تبكي بحرقة ، وحولها الناس يبكون بكاء الفاقدين ، أمعنت النظر فيها مليا ، لأجدها تجسد معاناة عزيزة الحسين ؛ رقية ... وهي تضع في حجرها رأس أبيها ، تشمه مرة وتضمه اخرى ... تقبله ، تأن عليه ، ليحن عليها ملك الموت في رفقته الى الفردوس .

الغريب ... أن الطفلة لم تكن تؤدي تشبيها فحسب ، إنما كانت تعيش الهاجس ، تستحضر الماضي ، تحيل الدمع دما ، أنها ادركت بوعيها الفطري الطهور ، معاناة المفجوعة رقية ، فدموعها الحقيقية قد لامست وجدان الزائرين ، انتقلت بهم حيث الوجع الحقيقي ، لتذكرهم بمصيبة رقية التي حملت جبال من الحزن والأسى حتى ارهقها ذلك الحزن ، ولم يحتمل قلبها الصغير فأسعفها الموت ، لينهي آلامها ، وتحظى بلقاء الحبيب .

عرفت حينها ، وتيقنت ، ان صغارنا قد هاموا في عشق الحسين ، وأن عقولهم قد ادركت بالفطرة مصابه ، وأن قلوبهم كما الكبار تمازجها الحرارة واللوعة ، أدركت عندها ، ان هذا فيض من كرامات الحسين .

قد يخذلني قلمي ﻷكمال ما رأت عيني وما أصاب قلبي ذاك النهار ، ولكني سأكتفي ختاماً بأن من سمع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم " إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين ﻻ تبرد أبدا " ، ومن أصابته تلك الحرارة فليسير مع السائرين وليلتحق بسفينة النجاة ، وليسلك درب الحسين ، نهجا و عملا ، فالله ﻻ يضيع أجر العاملين .

 

ايمان كاظم الحجيمي