لمحة من مدينتي !

عندما بنى جدي داراً، خصص مساحة كبيرة للحديقة، وغرس فيها سبع نخلات، باسم أبي وأعمامي الستة ، ومنذ ذلك الحين صار بيت جدي من المعالم البارزة للحي ، واعتاد الناس أن يسمونه (بيت أبو سبع نخلات)، والأكثر من ذلك صار الوسيلة الدالّة للمنطقة إذا أرادوا أن يصفوا أي عنوان قريب يقولون: بعد البيت (أبو سبع نخلات)، قبل البيت (أبو سبع نخلات )... وهكذا . كبر أبي وأعمامي، وكبرت ونمت النخلات معهم، وصارت تؤتي أُكلَها، وكل عام كان هناك تنافس بينهم في من يكون إنتاج نخلته أكثر من الآخر !! وولِدنا نحن الأحفاد فوجدنا النخلات السبع جزء من كيان العائلة، تدخل في الكثير من تفاصيل حياتنا، عندما كنا صغارا كنا نجمع الثمر الأخضر الذي ترميه النخلة بوقت مبكر، فنصنع منه قلائد ومسابح، ثم نبدأ بمراقبة الثمرة ومتى ستكتسي بلونها الأصفر الجميل، وتصير( خلالا )، ومتى ستتحول رطبا، ولأن صدورنا الطفولية تضيق بالانتظار فقد كنا نستعجل الأمر فنعمد إلى لف الخلال بقطعة قماش ودفنها في التراب؛ لتتحول إلى رطب قبل أوان نضجه !! نخلات بيت جدي لم تكن جزء من حياتنا نحن فقط، بل ومن حياة الجيران، فكانت سعفاتها الخضراء تشارك الجيران أفراحهم في كل عرس، أو قدوم حاج حيث تعلّق على الأبواب إيذانا بالمناسبة المفرحة، وفي موسم الجذاذ كان الجميع ينتظرون حصتهم من التمر اللذيذ، فكانت الأوعية والصحون تدور في بيوت الحي كل يأخذ حصته وبوفرة، وعندما يأتي الشتاء كانت حلوى التمر الأكلة الوحيدة التي تشعرنا بالدفء والشبع، ولأن أمي كانت ربة بيت من الطراز الأول فقد كانت تتفنن في استغلال كل ثمرة، حتى تلك التي أتلفتها الشمس أو العصافير فكانت تحوله إلى خل تفخر في انه أجود خل يمكن صنعه منزليا !! ومات أبي، كان أول الراحلين عن هذه الدنيا بعد جدي، وتبعه أعمامي واحدا تلو الآخر، فكان ما تهبه النخلات صدقات جارية توصل الرحمة والنور إلى قبورهم حتى بعد رحيلهم بأعوام . وفي يوم قرر الأحفاد جميعا أن تستغل مساحة الحديقة لبناء مجمع تجاري وهذا يعني طبعا قطع النخلات ! كنت المعارض الوحيد للمشروع، اعتبرته مشروعا وحشيا يعادي الحياة والعطاء بأجمل صوره، لكن صوتي تلاشى مع ضجيج الأكثرية الذين تحولوا في ليلة وضحاها إلى مستثمرين، وفي يوم عدتُ من الجامعة فوجدت النخلات قد هوت على الأرض، رأيتها ممددة الواحدة جنب الأخرى فاعتصر قلبي وشعرت كأنها سبع جنائز تنتظر من يحملها إلى المقابر، وكأن أبي وأعمامي ماتوا توا وهذه جثثهم ممددة أمام البيت؛ ولأني كنت واثقا أنهم سيسخرون مني لو بحت بما أشعر به؛ لذا لذت بالصمت، واعتكفت في غرفتي أبكي لفقد عشيرتي !! وبنى الأحفاد مجمعهم التجاري، وحتى يرضوني أطلقوا عليه اسم ( أسواق مملكة النخيل ) واختفت واجهة بيت جدي الجميلة ، وتلاشت الحديقة بألوانها، وهكذا تحولنا من منتجين إلى مستهلكين، والمثير للسخرية أنهم عملوا وليمة يوم افتتاح الأسواق، أنفقوا عليها بسخاء، دعوا لها القريب والبعيد، ووضعوا أصناف المأكولات، ومن بين ما وضعوه تمورا .. مستوردة .. من دولة الإمارات !!..

 

خديجة أحمد موسى