يأسرني بخوفه ! ويخيفني بغيرته ! يستفزني غضبه ! ويدفعني للجنون بأوامر ونواهي لا تنتهي ! يُحَدِثني تارة عن الرجولة وأخرى عن الغيرة والحمية ، وأحياناً عن أعراف وتقاليد توارثها عن أجداده فشكلت حداً فاصلاً في حياته .

ومع كل حادثةٍ تمرُ ... يّذكرّني بأنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ! وكأنني سَفهت هذه الكلمة بتصرفاتٍ مشينة وقلبت الموازين وخرقت كل الحدود والأصول ! رغم أني لم أفعل ما يُشين ولم أنتقص من قدره وهيبته بل ولم أتجاوز اي حدا من الحدود الاجتماعية أو الدينية لا سمح الله ، كل ما في الأمر أنني ناقشت زملائي بمواضيع العمل ، محادثة قصيرة بدقائق قليلة حول العمل وأمام ناظريه ... هذا فحسب وليس غير ذلك ، حتى أقام الدنيا بغضبه ولم يُقعدها ...

لم أعرفه قاسياً هكذا ! ولم أعهدهُ أنانياً حتى ! فهو من علّم قلبي الصغير خطواته الأولى ونبضاته البكر ... لم يكن رجلاً دخل حياتي ففرض أنانيته وترسبات الجاهلية لجنسه ، إنما رجل أراني الدنيا بلون عينيه ! وأمسك يدي وشد من عزيمتي بكل مجال وعمل ، فكان له علي الفضل في كل شيء ...

لكني لم أعهد القسوة منه إلا الآن ، بعد أن أصبحت علاقتنا أوضح وأوثق ! بعد ان أنجبت له ثلاثة أولاد حملوا الكثير من عنفوانه وشهامته ...

كنت أعاتبه بعد زوال زوابع غضبه وحيرته ، فيرد العتب بالعتب مستغرباً افتقاري لفهمه ، ومستهجناً عدم إدراكي مكامن غضبه ورضاه ، حتى ينتفض قائلاً  :

ـــ   أفهميني .. في البداية لم أكن احبكِ بهذا الشكل ! ولم يكن خوفي عليكِ بهذا الحجم ! بل ... لم أكن مرتبط بكِ بكل حبال روحي كما أنا الآن ، أبَعد هذا تعاتبيني على غيرتي وخوفي ؟ أنا الرجل الريفي إن لم تعرفيني بعد !!! أنا الرجل الذي يعشق بفطرته وبكل جوارحه ... كما أسلافه ، أنا من لا يرى لونا رمادياً يختتل بين الأبيض والأسود ، فالأبيض أبيض والأسود اسود ، ولا وسط بينهما " .

 كانت عباراته تلك تقضى على نقاشنا بسيوف الصمت فتردي كلينا، ثم أعود بعد دقائق .. أقارن الموقف بالموقف ، والحالة بالحالة .. من أجل إلقاء الحجج وعرض البراهين ، فأّذكّره بفلان وفلان وفلان ... برجال حدثت أمامهم مواقف مشابهة لهذا الموقف .. لكن ما اختلف ، هو ردة فعلهم عن ردة فعله ، وهدوئهم أمام بركان غضبه ، يجيبني وبكل ثقة :

ـــ   هناك من تلاشت في نفوسهم معاني الرجولة فلم يبقى لهم منها إلا ذكرى على هامش الهوية مكونة من ثلاثة حروف ... ( ذكر ) .

لم تختنق أنفاسي لهذا الموقف فقط ، بل لتكرره مراراً في حياتنا وعلى أبسط الأسباب ... والأدهى من ذلك ردة فعله القاسية بالبعد مرة وبالعزلة مرات ! ، لذا حاصر الحزن أيامي المهملة ، و أضعت الطريق لكسب رضاه ... عندها فكرتُ في ترك وظيفتي التي أصبحت جبالاً شاهقة تفصل بيني وبينه ... إلا إنه رفض ذلك بشدة !

إذاً ... ماذا أفعل ؟ فهو زوجي وملاذ روحي .. هو حنين الماضي ورؤيا المستقبل ..

لذا قررت أن لا اكلم أحداً مطلقاً ! ولا حتى برّد السلام ! فتعّطل عملي ، وانهارت بعض طموحاتي ! ، فأمام غيرته لا أستطيع أثبات أن العمل يزدهر بالحوار ويتقدم بالمناقشة ويسمو بطرح الآراء ...

ولكن ... كيف لي ان أحصد ثمرة نجاحي وأنا أعمل كخرساء أمام ثرثرة العمل وفضول الوصوليين ؟ بعد أن نذرتُ الصمت ما حييت حباً به وطاعة له ...

ها أنا أحترق كما الكبريت لأجل عملي الذي أصبح مشكلتنا الوحيدة ونقاشنا الوحيد ! وإنصافا له ، فقد غفلت عن سرد أهم معلومة في قصتي هذه ، في كونه صاحب الفضل الأول لما أنا عليه ، فهو من وجد لي هذه الوظيفة وفتح لي آفاق الإبداع بعد أن أخذ مني اليأس مأخذه في أن يكون لي دور خارج المطبخ .

لا أقول .. أنني لست سعيدة معه لئلا يكون ذلك إجحافاً مني لحقه ، او تنكرا لحسن معاملته معي وحبه لي ! إلا أن طوقه الذهبي هذا والذي اسماه بــ ( الغيرة ) بدأ يخنقني ، سيما وأنني ملتزمة جدا بحدودي في التعامل مع الآخرين ، لكن من وجهة نظره لا يمكن لرجل أن يدخل حياتي وإن كان في نطاق العمل والحدود الرسمية ، معللاً خوفه بحمايتي !!! فبطبيعة الحال لا يمكنه التكهن بخبايا نفوس الآخرين وهذه القيود ما هي إلا طوق الحماية ..

ـــ   " أنا أحرقكِ بنيران عشقي ، حتى لا تحترقي بمكائد الآخرين " .

كانت هذه آخر جملة أوصد خلفها أبواب النقاش ، وأسدل ستار الصمت علينا .

نغم المسلماني