لم يتفوه بكلمة واحدة ... بعد أن بدا شاحباً وغير مبالٍ بأمور الحياة ؛ سوى أمر يشغله ويدور في رأسه ويربكه ، وكأن هموم الدنيا اجتمعت لتطبق على صدره .

زوجي الذي لم يخفي عني شيء ، بدا لي غامضاً هذه المرة !!! وﻷني امتلك من كيد النساء شيئاً ، لن أتركه حتى أعرف ما به ، بطريقتي التي أعتاد عليها ، ومنها معاملتي له كطفل ، أغدق عليه الكثير من الحنان والعطف حتى اجعله ينطق ويخرج ما في جعبته وكأنه يتحدث لنفسه ، ولكن ما أدهشني وأثار شجوني وعلى غير عادته ، بدأ كلامه بدمعة ، ومع أني أقدر أن للرجل هواجس ومشاعر قد تستدر دموعه ، ولكن لا أعلم لما تجمدتُ أمام دمعته ، وحبست أنفاسي إثناء استماعي لسيل كلامه الهادر ، فقال بنبرة لم تمر على مسامعي من قبل ...

ـ   أنا أخجل من نفسي " .

أجبته باستغراب !

ـــ  ما الذي فعلته حتى تخجل منها ؟

رد علي وكأنه يسخر من نفسه ...

ـــ  المصيبة أني لم أفعل .

آه ... لم أفهم غرابة حديثه هذا .

ـــ  طيب ما الذي لم تفعله ؟

سبقت كلماته حسرة طويلة وقال بصوت تخنقه العبرة ...

ـــ  منذ فترة ، أستشهد " علي " ، ذلك الشاب الثلاثيني الذي كان يسكن قبالة مكان عملي ، وذلك أثناء تواجده المشرف في صفوف الحشد المقدس ، وبعد أيام من استشهاده علّق أخوه " احمد " وبعض من زملاءه صوره له ببزته العسكرية على سياج منزلهم كنوع من التكريم لما جاد به من دم زكي ، حيث توحي طلته وابتسامته وهو يحمل القاذفة بأنه ما زال حياً وكأنها صورة ناطقة ، لدرجة تدفعني ان أنحني له بالسلام صباح كل يوم وأنا أمر من أمام الصورة ، بيد ان ما أحزنني في ذلك هو موقف والدته التي اعتادته ان تخرج من دارها يوميا وبصعوبة كونها مسنة ومريضة بالكاد تمشي بضع خطوات ، حرصا منها بالوقوف أمام صورته ، متأملة طلته والدمع يأخذ منها مآخذه ، وهو ما دفعني للعزم على رفع الصورة بعد أن أستأذن أخيه لعدم استطاعتي ان أطيق تكرار هذا المشهد بشكل يومي .

وفعلاً أخبرت أخاه بأن صورة الشهيد ستميت والدتك كمداً وحسرة ، فأي أم يمكنها أن تستوعب أن عزيزها صار صورة معلقة على الحائط ، ولا أكثر من ذلك ...

ـــ  أجابني أخ الشهيد بابتسامة لم أجد لها تفسير في حينها ، ليشفع ابتسامته تلك بالقول : " أتريد رفعها يا رجل ، وأنا سألتحق غداً ! على الأقل دع لها واحداً منا .

ـــ  ستلتحق غداً ولم يبقى لعائلتك رجل سواك ووالدتك وأخواتك وبنات الشهيد وزوجته من سيرعاهم ؟ وهل يؤيدوك على الالتحاق ؟

وبلحظة وكأن كل ما حولي أضحى سراباً ، ألا رسالة أخرجها من محفظته وقال أقراها وستفهم ...

" بسمه تعالى ...

أمي المؤمنة ، زوجتي الصابرة ، أخواتي الغاليات ، أخي البطل ...

حينما تقرأون رسالتي هذه ، أكون قد حققت رغبتي والتحقت بركب الحسين عليه السلام خاشعاً لفتوى الحق وملبياً لنداء الكرامة ، كتبت رسالتي هذه بعدما تأكدت بأني اقتربت جدا من نيل وسام الشهادة ، فكل ما حولي ينبئني بالقرب من ذلك ونفسي أكثر توقا للسفر الى الفردوس ، ولا تتصوروا أني لم أفكر بكم ، أو أن فراقكم هين علي ، ولكن لو كان أحدكم معي ، لأدرك ماذا يعني أن تكون في حرم الجهاد ، فأي قيمة للحياة مقابل لقاء الحسين عليه السلام ؟ وتسجيل أسمي مع صحبه الأبرار  .

أرجوكم ... لا تفكروا بأني أبالغ ، والله لو رأى أحدكم ابتسامة الشهداء لحظة مفارقتهم للحياة لاشتريتم ذلك بأعماركم ، على الأقل حينما استشهد لن تقولوا رحمه الله بل هنيئاً له ، مما يعني أن الله رحمني بالالتحاق وحباني بشرف الرفقة للنبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقا .

أكتب لكم الآن وأنا في عز شوقي للحظة الهروب من الحياة وضجيجها إلى ذلك المكان الذي أتوق لرؤيته ، حتى ان مخيلتي لا تعّني على رسم ملامحه ، حيث سأطلب من الله أن يشملكم بعنايته وليس هناك ألطف بكم منه جل وعلا .

أتمنى أن تقرءوا رسالتي هذه بأسرع وقت لأني سأكون حينها شهيد .

                                                                                                                               التوقيع : شهيد في طف العراق

ـــ  هذه الرسالة وجدناها في حقيبة أخي بعدما سلمها لنا أحد رفاقه بعد استشهاده ، والآن يا صاحبي هل ستسألني كيف التحق ؟  ومن سأترك ورائي ؟

ـــ  يا زوجتي ... لم أكن أسمعه فما زال صدى الرسالة يدوي في أرجاء مشاعري وكأنما أثار بركان في داخلي .  

وختم كلماته وسط صمتي المفتعل ودموعي

ـــ  الآن ... هل عرفتِ ما الذي لم أفعله ؟

 

بلاسم الشمري