رصاصة من الخلف ، أنفاسه تضيق رغم الهواء العذب على جبال مكحول ...

ثمة خبر سيء تسرب اليه جعله يقف بعيدا ...

مرت على ذاكرته صور أصدقاءه الشهداء بوجوههم الضاحكة ، سمع كلماتهم المعتادة ، أحس بأكفهم تربت على كتفه ، اشتاق ، خر الدمع بلا استئذان ، تمنى ان يكون احدهم حاضرا ليحتضنه ويبكي ولكن هيهات ، رحل السعداء .

جلس يقلب التراب بكفيه ، تذكر يوم غشيه التراب في إحدى التعرضات ، أوجعته كتفه ، وكأنها تذكرت الإصابة ، شعر بانحناءة مصاب لكنه قوم جلسته مستنكرا كما فعل يوم أصيب بقاذفة عدو ، فقد اكتشف حينها انه بطل بعزم ﻻ يلين ، رفض الإخلاء حتى استقر أمر النقطة وانتهى التعرض ، تمزق قميصه ، كان هدية عزيزة فتأسف ارتدائه لكنه لم يتأسف سمعه الذي فقده ، ﻻ بأس حين تفقد جزءا من السمع ستكون بمأمن عن لغو الفارغين ، بهذا علل نفسه فالعلة الدائمة في سبيل الله وسام ﻻ ينتزع طيلة حياته الأبدية.

حانت منه التفاته لناظور محطم ... للاسف أيضا خسر الناظور في تعرض اخر ، فقد كان نافعا جدا ، فلوﻻ رؤيته للعدو لتحولت الشظية التي أصابت رأسه الى رصاصة قاتلة ... إيه للحياة بقية .

تجول صاعدا ونازلا إحدى التلال القريبة على النقطة ، ويداه تلتقط كل اله حادة ، ليزيحها عن طريق المقاتلين اذا ما تحركوا في واجبهم الليلي ، فما كاد يرفع ظهره حتى تذكر الحسين عليه السلام ، وكيف كان يزيح الشوك عن أطراف المخيم ليلة العاشر كي ﻻ تصاب به العائلة بعد استشهاده .

يمم وجهه الى كربلاء بدمع سخين وعبرة حرى ، مناديا " يا حسين ، كنت تجمع الشوك ليلة استشهادك ، لكني اجمعه اليوم لأهرب غدا من ساحة المعركة " ،  عض على جرح روحه بشدة وهو يسأل : " ما الذي فعلته لأسلب التوفيق للجهاد ؟ بماذا أخطأت يا أبا عبد الله ؟ بماذا اجبني يا مولاي ؟

كان قرار الاستغناء عنه في الحشد قد وصل الى النقطة ، لكن ﻻ احد يحب ان يناديه لذلك ، وهم جميعا يعرفون روحه المعلقة على السواتر وتلهفه لكل كلمة تصدر من المرجعية عن المجاهدين ، كان يركض بالبشرى بين صفوف الفوج ، هل سمعتم ماذا قال السيد ؟ معركتنا اشرف المعارك .

 كيف لأحدهم ان يتحدث عن التقليص ، ما أثقلها من كلمة وما أبردها " تقليص "

ولأي ذنب يقلص عديدهم ؟ ألقلة التخصيص المالي للحشد الشعبي ؟!

وأي  منهم سيقبل بأن يحرم من هذا الشرف ، ويعود من مشارف مكحول الى أقصى الجنوب ليعود لعمله المعتاد فيها .

وما ذنب روحه التي ستبقى معلقة بالفوج المقاتل وهو ينتقل الى معركة الفلوجة في معركة تستلزم الثبات والعزم ؟ فيما يبقى المرابطون في المدن بعددهم وعدتهم دون تقليص .

 ثارت ثائرته فجأة ... وقرر ان يشتكي عند ..... او عند ...... وربما ....... !!!

ثم شعر بإحباط ، لأنه يعلم صعوبة أن يلتقي المرجع الأعلى ، وسلى نفسه قائلا ...

" وحده من سيفهم صدقي ... ولكن ، كيف لي من ذلك ؟

تلفت طويلا ... وقد سرحت نظراته بعيدا ، فلم يعد يرى الساتر او العساكر ، حتى وصل لأطراف كربلاء ، وخطرت له ان في شباكها الذهبي الأقدس فتحات صغيرة بإمكانه ان يرسل شكوته هناك ، وﻻ احد يستطيع منعه من ذلك .

لقد وجدها إذن !

فعلها ... و ارتدت أنفاسه حين شعر ان الحسين عليه السلام معه ، وانه سينصفه حتما حتى لو كان واجبه القادم ان ينقل لهم المواد ! او يقيم الخيام ! او يفرش لهم الأرض ! او لعله يريدني ان اغسل لهم الملابس ! او افرغ أحذيتهم من التراب!!!

فقط ... ﻻ تبعد طوسي من باب خدمتك وأنت اهل لحسن الظن يا أبا عبد الله ...

لبنى مجيد حسين