منزل بلا روح ...

ما إن وصلت أعتابه حتى شعرت بغرابة ... دخلته وأنا أتوقع مقابلة صاحبة المنزل ، وأصبحت لا أطيق الانتظار والترقب لرؤيتها ، فالمنزل يحمل صمتاً قاتلا ، والبرد بدأ ينفض أوصالي ، لم أرى شمساً تلامس نوافذه، فهي لم تجد لها مكاناً فيه، لذا لملمت أحزمتها المشرقة ورحلت برفقة من رحل، وبينما أنا أطبق على يدي من شدة البرد، فإذا بطفلة صغيرة أقبلت لتخبرني ان والدتها ستأتي لاستقبالي بعد قليل ...

مرت دقائق ثم سمعت صوت أقدام مقبلة نحوي، ظننتها هي ، فإذا بطفلة أخرى اصغر سناً ، عرفت عندها أنهما طفلتي الشهيد، الكبرى ياسمين والصغيرة نرجس، تنظران إلي بعيون بريئة وملامح حملت نصيباً مما خيم على المكان ...

حاولت إضحاكهما ، دون جدوى، عندها أتت زوجة الشهيد وأوقدت المدفأة وهي تسألني :

ـــ   هل تشعرين بالبرد ؟؟ آسفة فأنا لم أُشعل المدفأة اليوم لأن الجو دافئ ... وكأنني أنا الوحيدة التي تشعر بما يدور بالمكان من برد وصمت !

ـــ   نعم أشعر بالبرد ، شكراً لكي ...

ثم بدأت أكلمها واسألها عن زوجها حقي الذي قدم روحه قرباناً لهذه الأرض، فهو أحد أبطال المرجعية الدينية الذي التحق بلواء علي الأكبر , رجل يأبى الهوان، فلم يكن هذا جهاده الأول، بل كانت له صولات أخرى بالانتفاض على النظام البائد .

جلستُ بقربها ، أتطلع لوجهها الذي تتزاحم فيه الهموم ، وأكتافها المثقلة بالمسؤولية .

بدأت أسألها عن زوجها البطل الذي خلف غيابه كل هذا الفراغ والألم ، في البداية لم تستطع الكلام فقد كانت دموعها تسبق كلماتها ، وبقيت الحروف متلجلجة في حلقها ، تحمل إضمامة من الصفات الجميلة التي يتسم بها زوجها ، تركتها تُنفس عن حزنها بالدموع، ومن ثم تكلمت وهي تختنق بالعبرة تلو العبرة قائلة :

ـــ   إن حقي كان نعم الزوج والأب ، وعندما أراد الالتحاق في شعبان منذ صرخة فتوى الجهاد ، عارضته كثيراً خوفاً عليه، لكنني بعد ذلك تآزرت بصبر السيدة زينب عليها السلام ، وأصبحت أنا من يجهز ملابسه ويدفعه للالتحاق ، حينها بدأ يريني تصوير العمليات الجهادية والشهداء أثناء إجازته ، ويوصيني ببناته خيراً ، وكأنني شريكته في الجهاد ، وفي إجازته الأخيرة، وبينما كنت منشغلة أجهز الفطور، أتى الى المطبخ وقال لي :

ـــ   هذه المرة سأذهب لأربعة أيام فقط .

تركت إبريق الشاي من يدي وسألته مستغربة :

ـــ   لماذا ؟ فأنت بالعادة تذهب خمسة عشر يوماً أو أكثر !

ـــ   لأنني هذه المرة سأرجع إليكِ ملفوفاً بالعلم فلا تحزني بعدي .

أجهشت زوجته بالبكاء ثم سكتت قليلاً وأردفت قائلة " إن حقي الآن في المكان والمنزلة التي يستحقها، فقد رأيت في منامي أن ثمة صورة معلقة في الشارع فيها الإمام الحسين وعلي الأكبر عليهما السلام والناس متجمهرة تنظر الى الصورة وضجيج أصواتهم يملأ المكان ، فاقتربت لأرى ما يحصل، فإذا بزوجي حقي معهم في الصورة يقف بجانب الإمامين عليهما السلام ، لذا أنا أعرف تمام المعرفة ، منزلته في الدنيا والآخرة ، وإنني أتمنى أن يدعو لنا عند الله سبحانه بمنزلته تلك، لكن فراقه مؤلم جداً ولا أكاد أقوى عليه " .  

سكتت ولم تتكلم أكثر، معللة عدم قدرتها على المتابعة، وأن الذكريات أججت لهيب حزنها من جديد .

أما أنا ، فلم أعد اشعر بالبرد البتة ، فقد شدني الحديث وتملكني الإحساس بالامتنان والتقدير لهؤلاء الأبطال ، لما ضحوا به من أجل أمننا ، وصرت أعرف سبب الصمت الذي يأسر هذه العائلة ، فحقي ... ذلك البطل المغوار والزوج الصالح حمل معه كل شيء جميل عندما حزم أمتعته ورحل ، وإن ما قدمه لدينه وبلده يغني عن كل قول، وما عرفته عنه يكفيني ، لذا خرجت من خيام الصمت لأستنشق  هواء الكتابة التي تتنفس ببطولاتهم .

نغم المسلماني