الدعاء فـي الصحيفة السجادية (قراءة نفســية)

 

 أ.د. حيدر كريم سكر  

أ.م. فرحان محمد حمزة البيضاني                   

 

في الثقافة العربية الاسلامية القديمة لا تنفع شذرات لغوية هنا وهناك في معجمات اللغة ، او في الاصطلاح ، ذلك ان الدلالة في المعجمات حصيلة بحث لغوي حتمته ظروف جمع اللغة ، ومن بين ما اهتمت به معجمات اللغة اسلوب الدعاء كمصطلح لغوي واصطلاح مفاهيمي يستخدم من قبل الاخرين ، فالدعاء فعل يقوم به الداعي ، ينتقل به وينقلنا معه ، الى عالم روحاني مقدس ، فيه قدرات قصوى ، وامكانات لا متناهية ، فالله سبحانه يقدر على الفرج مما لايقدرؤ عليه البشر ، عالم الدعاء عالم متخيل ، نستوعبه ونعيش فيه بمقدار قدرة النص على نقلنا اليه وتاثيره فينا ، فادب الدعاء جانب مهم من الاداب العربية نسيه تاريخ الادب وتجاهله الادباء ، واغفله النقاد من هنا جاءت دعوة العلامة حسين علي محفوظ الى التنبيه الى اهمية ادب الدعاء ، فهو نثر فني رائع واسلوب ناصع من اجناس المنثور ونمط بديع من افانين التعبير وطريقة بارعة من انواع البيان ومسلك معجب من فنون الكلام ( الكواز ، 2012: 7) .

جاء الإسلام كُلاً مترابط الأجزاء، ووحدة عضوية متكاملة المفاهيم، والخطر كلّ الخطر على تلك المفاهيم أن تؤخذ مجزّأة منفردة، ثمّ يتم تقويمها والتعامل معها وهي بهذه الصورة المبعثرة . فالمفهوم في الإسلام لا يكتمل معناه، ولا تدرك أهدافه، ولا يمكن إعطاء تقويم صحيح له، إلاّ بعد ربطه بكل ما يتعلّق به من مفاهيم مترابطة معه، متناسقة مع أهدافه، مكمّلة لوجوده، ضمن صيغة الوحدة الفكرية في الإسلام (الجمالي ، 1966: 23  ).

ومن تلك المفاهيم التي أسيء فهمها بسبب اقتلاعها، وافرادها منفصلة عن جسم الوحدة الفكرية، هو مفهوم الدعاء .

امام هذه المشكلة اسس دارسون مفاهيم جديدة ، كي يتعاملوا من خلالها مع النص العربية ، ويلاحظ انهم استمدوا بعض معالمها من الدراسة الغربية الحديثة مع تعديلات ضرورية ، املتها طبيعة النص ، بما هو منتج ثقافة عربية ، يحتوي على نظام ونسق ودلالة من هؤلاء محمد مفتاح الذي تبنى مفهوما، يقوم على انه مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة ومضى يطبقه على قصيدة قديمة ( الطرابلسي ، 1988 : 45 ) .

لقد حققت ادعية الامام السجاد شهرة واسعة ، اذ كان الناس يسمعونها منه ويعملون بها ، ويتناقلونها جيلا بعد جيل ، سلسلة طويلة من الرواة ، وهذا مال اشار اليها ابن عساكر في تاريخه ، تفصح عن الاهتمام بها والعناية ، لكن الملاحظ الى اننا الى الان لم نقف على هذا الاثر القيم الخالد في مواريث النبوة واهل البيت (القزويني ، 1986 : 76 ).  

ومن يتأمل في نصوص الادعية الواردة على لسان الانبياء في القرآن الكريم، وفي المأثور من دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، يستشعر أهمية الدعاء وقيمته الفكرية والروحية والنفسية التي تأخذ طريقها في حياة الإنسان ، لتنصب سلوكاً ومواقف إنسانية في محيط الفرد والجماعة البشرية ، وبالتأمل في المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام)، بما بين أيدينا من أدعية ومناجاة ندرك أنّ هذه المدرسة الإسلامية اتخذت طابعاً خاصاً في الدعاء والمناجاة فصارت منهجاً للاخلاق والعقيدة والمفاهيم والسلوك ، لذا جاء هذا البحث في محاولة لقراءة نفسية للدعاء في الصحيفة السجادية من خلال التحقق من الاهداف الاتية :

شروط استجابة الدعاء . اثر الدعاء في النفس .

        اعتمد البحث الحالي على المنهج الوصفي القائم على التحليل والتفسيرالذي يسعى الى تحديد الوضع الحالي للظاهرة المدروسة ومن ثم وصفها ، وبالنتيجة فهو يعتمد دراسة الظاهرة على ما توجد عليه في الواقع ويهتم بوصفها وصفا دقيقا ( ملحم ، 2000: 324) .

فدراسة اي ظاهرة ، او مشكلة تتطلب وصفا لهذه الظاهرة والهدف من تبني هذا النوع من البحوث هو التوصل الى فهم اعمق للظاهرة المدروسة ، ولا يتوقف هذا المنهج عند حدود وصف الظاهرة  وانما يتعدى ذلك الى التحليل والتفسيروصولا الى تعليمات ذات معنى تزداد بها المعلومات عن تلك الظاهرة ( داود، 1990: 159) .

شروط استجابة الدعاء:

في القران الكريم الكثير من البراهين على اهمية الدعاء وما يمثله من راحة نفسية وروحية للداعي والملاحظ ان الذي يطلع على الايات القرانية يستنتج ان هناك شروطا لاستجابة الدعاء وهذا ما يمكن ملاحظته في الايات الكريمة التي يمكن ان نشير الى البعض منها :

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). (البقرة/186)

(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء/32)

(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (الأنبياء/76)

(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/83-84)

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/87-88)   عن الإمام الصادق (ع) قال: قال رسول الله (صل الله عليه واله وسلم)  ان( الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض).

التأمل في هذه النصوص، وتقصّي أبعادها، والربط بين مفاهيمها، نستنتج جملة من الأفكار والمفاهيم الرئيسية حول قيمة الدعاء، وأهميته في الإسلام، فالآيتان – الأولى والثانية – قرّرتا مشروعية الدعاء والحثّ عليه، كما أشارت الآيات الأخرى التالية لها إلى نماذج من دعاء الأنبياء ومناجاتهم، واستجابة الله سبحانه لدعائهم، وانضمت إلى هذه المجموعة من الآيات الكريمة إضمامة من الأحاديث الشريفة، فزادت الفكرة وضوحاً، والمفهوم رسوخاً. ومن ضم هذه النصوص بعضها إلى بعض الآخر، ومحاولة دراستها والتأمل في مداليلها نستنتج:

أولاً: إنّ الدعاء عبادة يتعبد بها الإنسان المسلم، ويتقرب بها إلى الله سبحانه.

فقد ورد في الحديث الشريف:( أفضل العبادة الدعاء ) وأحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاء ).

ثانياً: إنّ الدعاء تعبير عن إيمان المسلم، واقراره بأنّ الله هو خالق كل شيء، وهو مالك كل شيء، ومنه كل نعمة يتمتع بها الإنسان، فإليه يتّجه، ومنه يسأل، وبه يستعين، لذا كان الاستمرار على الدعاء يشكّل تأكيداً لتقرير حقيقة هامة في نفس الإنسان المسلم ، وهي فقره إلى الله، وعدم استغنائه عنه.

ثالثاً: إنّ الله بحكمته منع أشياء كثيرة عن الإنسان، وحال بينه وبين ما يريد لتبرز عظمة الله سبحانه وضعف الإنسان وحاجته إلى خالقه، ليعرف قدره، ويكتشف مصدر الفيض، وموضع الحاجة، فيتوجه إليه، ليبقى هذا التوجه والانشداد قائماً في نفس الإنسان، ولئلا يحدث الانفصال المروع بينه وبين الله تعالى، مصدر الخير والوجود، وكلما ازداد انشداد الإنسان إلى الله تعمق إحساسه بالانتصار على الحاجة، وتوالدت في نفسه مشاعر جديدة، هي مشاعر الاستغناء الذاتي بالله سبحانه، وتعزيز مكانة الإنسان بين عالم الأسباب والمقاصد المحيطة به، والتي تحاول الضغط عليه، والنيل من ارادته وقدرته على الانتصار عليها، وكلما تنامى في وعي الإنسان هذا الإحساس الإيماني العميق، تفتحت في نفسه آفاق إنسانية خلاقة، وتولدت فيها مشاعر إنسانية حيّة، تتفتح أبعادها عن مسارات وقيم حيّة رائدة، لم يكن ليحلم بها، لذلك ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام  ) انّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة ، ولذلك أيضا جاء الحثّ على الدعاء وتأكيد المواظبة عليه بعناية بالغة على لسان الوحي، وفي سنن المصطفى وتوجيهاته ( الجلالي ، موقعwww.islam4u.com ) .

ان كثير من الناس يعانون من  معضلة الفهم لقضية أساسية في الدعاء وهي: لماذا لا تستجاب كل الدعوات ولماذا يردّ بعضها في أشدّ ظروف الإنسان محنة وحراجة؟.

وللاجابة على هذا السؤال، يجب أن نفهم: أنّ هناك شروطاً ذاتيّة ترتبط بالإنسان الدّاعي، نفسه، وأخرى ربّانية تتعلّق بحكمة الله وعلمه بمصلحة الخلق، وثالثة موضوعية ترتبط بذات الأسباب والظروف الطبيعية للقضية التي يدعو الإنسان لتحقيقها، فهذه الشروط جميعاً ذات علاقة وتأثير على إجابة الدعوة من قبل الله سبحانه، أو عدم اجابتها، فليس كل ما يدعو به الإنسان هو الحقيقة التي يجب أن تكون وتتحقّق في عالم الوجود لأنّ ارادة الإنسان ليست هي الارادة التي تسيّر العالم، ورغبته في حدوث الأشياء دائماً لا تكشف عن حقيقة ما يجب أن يكون، وليس ضرورياً أن تتطابق هذه الرغبة دائماً مع منطق الخير وأهدافه المطوية في ضمير القدر، لذا فان رغبة الإنسان وطلبه من الله سبحانه تحقيق أمنية، ليست كافية لتحقيق الشيء وايجاده، إذ لو جرت الأحداث والوقائع وفق رغبة الإنسان وأمانيه الذاتية لاختفى تأثير قوانين الوجود، وتوارى دور الإرادة والحكمة الإلهية، ولغاب دور الإنسان التكليفي، وانتهت مسؤوليته كقوة محركة في عالم الحوادث والأسباب، إذ كثيراً ما يدعو الإنسان لتحقيق شيء وهو لا يحسن تقدير نتائجه، ولا طبيعة آثاره في الحياة، وقد يلح بالطلب، ويرفع صوته بالضراعة والابتهال في التخلص من شيء، وهو لا يعلم أنّ مصلحته فيما يرفض، وخيره فيما يدعو الله للخلاص منه، فكل ذلك خافٍ على الإنسان، ومغيب عنه، لعدم قدرته على اختراق حجب الغيب، أو الاطلاع على حقائق الأمور، كشف نتائج الحاضر والمستقبل ( الشيخ الكليني ، باب فضل الدعاء الجزء الثاني : 466) .

وما أصدق تعبير الدعاء المأثور، وهو يشخص هذه الحقيقة، ويكشف سطحية المسار الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية وضيق الأفق الذي تتصرف فيه، وقصور الرؤية عن استبطان حقائق الأشياء، وكشف مطوياتها، لذلك كانت استجابة الدعاء متوقفة على أمور أساسية :

الشرط الرباني: ويقصد به عدم مخالفة الدعاء للحكمة الإلهية أو معاكسة قضاء المشيئة الربانية التي قدرت سير العالم، ورتبت تتابع الأسباب والنتائج والمصالح فيه .فالرغبة الإنسانية ليست هي التي تقرر سير الحوادث، أو تحدث ما تشاء بعيدة عن تقديرات الحكمة والتوجيه الإلهي، فلكي يكون الدعاء مؤهلاً للإجابة يجب أن لا يخرج على حدود المصلحة المقدرة في علم الله سبحانه . الشرط الذاتي: ويقصد به الكيفية الروحية والنفسية التي يتوجه بها الإنسان إلى الله سبحانه، من صدق التوجه، والاخلاص في الدعاء، والثقة بالله، واستشعار الحاجة والفقر إليه، واشتداد الضيق والاضطراب، وارتفاع موانع الذنوب والمعاصي التي تحول بين الإنسان وربه

ففي هذه الحالة تكون الذات الإنسانية على درجة من العلاقة والارتباط بالله سبحانه، تؤهلها لتكون طرفاً في رفع الدعاء، والتعامل مع فيوضات الرحمة الربانية، واستقبالها بدرجة تجعل من الداعي مستحقاً للإجابة، متوفراً في شرط القبول والقرب من الله سبحانه .

الشرط الموضوعي: ويقصد بالشرط الموضوعي: تعامل الإنسان مع الأسباب والوسائل الطبيعية التي جعلها الله سبحانه سبباً في تنظيم الحوادث وسير الأمور . وبعبارة أخرى: إنّ على الإنسان واجباً ومسؤولية، عليه أن يؤديها إذا ما أراد انجاز شيء، ودعا الله سبحانه للاعانة على ذلك فقد جعل الله بحكمته علاقة بين الأشياء وأسبابها، ويأتي دور العون الإلهي في هذه الحالة متمثلاً بتوفيق الله الإنسان لاصابة الأسباب الملائمة، وتأهيلها لاعطاء النتائج المرجوَّة . فالمريض الذي يدعو الله سبحانه بالشفاء، لا يحق له أن يترك مسؤولية العلاج ويكتفي بالدعاء والذي يهدده الظالم، لا يجوز له أن يخنع ويستكين لارادة الظالم، ثم يدعو الله لكشف الضرّ عنه  والاستجابة لله، تعني الالتزام بشريعته، وتنفيذ مقرّرات المنهاج الإلهي «الدين» الذي هو مجموعة القوانين والأحكام الإلهية التي تسيّر الوجود الإنساني، وتنظّم مساره وأحداثه        (مدن ، 2006 : 324 ) .

كما يجب أن لا يغيب عن الذهن ونحن نتحدّث عن هذه الشروط الأساسية الثلاثة التي تتوقف عليها استجابة الدعاء، أن نؤكّد أنّ مشيئة الله سبحانه هي النّافذة، وإرادته هي الغالبة، وليس للأسباب والقوانين الطبيعية دور الحتمية إذا شاء الله سبحانه الاستجابة، وقضى بتنفيذ الامر:فقد أثار الكثير من الذين تعاملوا مع هذا المفهوم ـ تعاملاً منفصلاً عن بقيّة مفاهيم الإسلام ـ أثاروا شكوكاً حول الدعاء، منها:

1 - إنّه وسيلة للاتكالية ، وتجميد لطاقة الإنسان ، وشلّ نشاطه ، وإشاعة لروح الكسل   والخمول، بالاعتماد الغيبي على الله، وعدم ممارسة الإنسان لدوره وواجبه .

2-ـ  إنّ الدعاء دعوة إلى فرض الدور السلبي على حياة الإنسان ، وتجميد قوانين الطبيعة والوجود التي تتحكم في الحياة، وفي مصير الإنسان ، وبذلك ينتهي دور الإنسان التاريخي، بتعليق إنجاز المهام المنوطة بالإنسان على الله تعالى، مع انسحاب كامل لقوى الإنسان وجهوده في ميدان الممارسة، وإنّ أمة ترضى بالدعاء ـ بالقول والضراعة ـ بديلاً للجدّ والتفكير والعمل والنشاط، لهي أمة تحكم على نفسها بالفناء والموت العاجل، وتمحو دورها الإنساني  بدعائها وضراعتها ـ

ذلك ما يقال ويكثر ترديده حول فكرة الدعاء .إلاّ أنّ الإسلام بوحدة أفكاره ونقاء مفاهيمه، يقوم بأكمله ردّاً حاسماً على هذه الشبه والتخرصات التي يطلقها المتجنّون عليه .فالإسلام حينما شرّع الدعاء، شرّع العمل كذلك، وبيّن مسؤولية الإنسان وواجبه المترتب عليه، فقرّر التزامه بإجراء قوانين الوجود، والتطابق مع سنن الحياة التي أودعها الله في هذا العالم، فما من شيء يتحقق إلاّ ويحتاج إلى سبب، وما من حادث يحدث إلاّ وله محرّك , فالنتائج لا تنزل من السماء، وليس معنى الدعاء تعطيل قوانين الوجود، والدخول في دورة سبات لانهائية، والاكتفاء برفع اليدين إلى السماء.

أنّ الدعاء: وهو طلب عون الله، والتوكّل عليه، لا يعني تعطيل الأسباب، وترك السعي من قبل الإنسان ، وتجميد نشاطه، واللجوء إلى الكسل والخمول بدعوى الاعتماد على الله، وكما رفض الإسلام تعطيل دور القوانين والأسباب الطبيعية من قبل الإنسان ، رفض كذلك اللجوء إلى الاوهام والخرافات في معالجة المواقف، وتحصيل الأشياء التي يريد الحصول عليها، لأنّها ليست من قوانين الطبيعة، ولا من أنظمة الوجود التي أودعها الله في هذا العالم، وليس لها أي دور تأثيري في سير الحوادث، أو اعطاء النتائج، وقد اعتبر الإسلام تعطيل دور الإنسان ، وعدم أدائه لواجبه ومسؤوليته، وعدم تسييره للحياة وفق قوانين الطبيعة التي أودعها الله في الوجود، مخالفة لحكمة الله وإرادته، واعتبر هذا التعطيل متعارضاً مع إجابة الدعاء، وعقيدة التوكل ( اسماعيل ، 1993 : 123 ) .

الدعاء قراءة نفسية :

الدعاء تعبير طبيعي عن إحساس نفسي وشعور حي لدى الإنسان، الذي يدرك وجود حقيقتين في حياته: الله، والإنسان، ويدرك النسبة الحقيقية بين الوجودين: وجود الله الذي هو مصدر الغنى والكمال والإفاضة في هذا العالم ووجود الإنسان الذي هو وعاء الفقر والحاجة والمسكنة، المتقوّم بالإفاضة والعطاء المستمر .

فهذا التصوّر للعلاقة الحقيقية بين الوجودين، وجود إلهي، هو المبدأ والمصدر في إيجاد الإنسان

وإفاضة الخير والرحمة والبقاء عليه، ووجود إنساني صادر عن ذلك المبدأ، ومتعلّق به، ومتوقّف عليه، ومتوجّه نحوه دوماً لطلب الإفاضات والكمالات، التي تسدّ نقص الوجود الإنساني، وتغني فقره وحاجته في كل شيء، في استمرار بقائه، في استقامة حياته، في رقيّه وتكامله، في اصلاح نفسه ومدّه بحاجاته، في إعانته على مشاكله ومصاعبه، في إنقاذه وخلاصه، فإنّ هذا التصوّر هو الذي يفرض هذه العلاقة، وينتج هذا الشعور الذي يقود إلى توجّه النفس البشرية إلى مبدئها الذي يهبها ويمنحها ما يوفر لها كمالها، ويحفظ وجودها، ويسدّ فقرها ، ولا يتوقف الإحساس بالحاجة والشعور بالحيرة والرغبة في التوجّه إلى قوّة تساعد الإنسان على الانقاذ والخلاص، على المؤمن وحده، بل هو إحساس بشري عام، يستوي فيه المؤمن بالله والكافر به، إلاّ أنّ الناس ليسوا سواء في تفسير هذا الإحساس، وتوجيه الشعور وجهته الفطرية، رغم إحساس الجميع به، وشعورهم بضغطه، فما من إنسان إلاّ وينتابه العجز، والحيرة، ويشعر بالضيق، ويحس بالحاجة إلى قوّة تسعفه، وتنقذه من محنته وحيرته، وتقطع يأسه وشعوره بالعجز والضياع في هذا العالم . وعند هذا الحد، من الإحساس المشترك بين أفراد النوع الإنساني، يبدأ الافتراق بين المؤمن بالله والكافر به( الحمداني ، 1993 : 78 ).  

فالمؤمن يعرف مصدر توجّهه، ومبدأ حياته، وهو الله سبحانه، فيتوجّه إليه بروح مؤمنة، مملوءة بالأمل والثقة والرجاء، في حين يظلّ نقيضه الكافر بالله، يعيش حالة من الحيرة    والضياع، والبحث غير المجدي، وهو يعيش الإحساس ذاته، ولكن لا يدري إلى أين يتوجّه، لا يعرف الجهة التي تبث هذا الإحساس والألم، ولا يستطيع اكتشاف الرحمة والحنان، الذي يغمر عوالم الوجود، ويتّسع للتجارب مع هذا الإحساس، لذلك فهو يحمل هذا الإحساس بين جنبيه وخزات تباعد بينه وبين الاستقرار والطمأنينة، ويأساً يسد أمامه منافذ الرجاء والخلاص، رغم كل القدرات المادية المتوفرة لديه، ورغم ظنّه انُه مستغن عن الله، مكتف بما عنده هو ( السبحاني ، 2000: 45 )  .

فهو يظلّ يعيش حاجة التوجّه واللّجوء إلى الله، رغم جهله به، واستكباره وغروره الذي قاده إلى جحيم اليأس والمعاناة، فثغرة الإحساس بالحاجة، وتوجّه النفس الفطري في هذه الحالة نحو جهة الغنى والإفاضة، يشكّل قانوناً طبيعياً لحركة النفس، وكيفية تصرفها في لحظات الضيق والشدَّة.

ولو أُخذ الدعاء العبادة التي تصل الإنسان بالله ـ ودُرِسَ دراسة تحليلية واعية، لاستقصاء أغراضه، واستكشاف مردوداته النفسية والاجتماعية، والوقوف على آثاره التغييرية والتكاملية في النفس البشرية، لما ترك الدعاء مؤمنٌ بالله، ولما أورد ملحد شبهة عليه ، فالنفس البشرية ذات الأبعاد المختلفة والأعماق والأغوار المعقّدة الغامضة، لا يمكن ملؤها بالحاجات المادية  وحدها، مهما يغالي الإنسان في الإشباع المادي، ويتمادى في توفير الحاجات والمطالب الحسيَّة، والإنسان بطبيعة تكوينه، وحقيقة وجوده، يتعرّض في حياته لمشاكل، ونكبات، وآلام، وإحساس بالخيبة، وقصور عن الأهداف ، فليس كل شيء في هذه الحياة يتحقق للإنسان كما يريد، ولا كل شيء يجري وفق مشيئته، وبذا تبقى الحاجة قائمة، والرغبة غير مشبعة، والشعور بالحاجة متعاظماً في نفس الإنسان، والتوتر مستمراً بين ذاته، وبين الواقع المحيط به ( اسماعيل ، 1991 : 88).

وتلك حكمة الله الخبير في الخلق، جعل كل ذلك، لئلا يشعر الإنسان بالاستغناء والطغيان، وليبقى مرتبطاً بخالقه، متوجّهاً إليه، ساعياً نحو الكمال، لإحساسه العميق بوجود الهّوة بينه وبين هذا الكمال المنشود، لأنّ الشعور بالاستغناء موت وانتحار لكل قوى الإنسان ، وسبب في الطغيان والعدوان والتباعد عن الحق والخير:

لأنّ للحاجات، وللآلام والشدائد التي يمرّ بها الإنسان ، من ضعف وفشل في الحياة، ومرض، وقصور عن بلوغ الغايات، آثاراً تكاملية، ومردودات إصلاحية على النفس البشرية، تساعد الإنسان على اكتشاف ذاته، ومعرفة قانون الاتزان، وتشخيص الحدّ الطبيعي الذي يجب أن يلتزم به في نظرته إلى الأمور وتقويمها، وفي سلوكه مع الآخرين، وموقفه منهم .

لذا جُعِلَ الدعاء في الإسلام وسيلة لربط الإنسان بالله، والتوجّه إليه، والاعتراف بين يديه بالذنوب والجرائم، وإظهار حاجة الإنسان وفقره، وضراعته، ورغبته في اصلاح نفسه، وإنعاش حياته، لكسر كبرياء الإنسان، وتعريفه بحقيقة ذاته، وإشعاره بضعفه، وبحاجته إلى خالقه في الخلق والإيجاد والإمداد بضرورات البقاء، ليبني ضمن هذه النظرة مفهومه عن الإنسانية جميعها، وليضع نفسه ضمن هذا المفهوم، فيعي وجوده، وعلاقاته، وقيمته، من خلال هذا التوجّه والارتباط بالله، بعيداً عن الكبرياء والطغيان والعدوان ( اسماعيل ، 1993 : 99) .

لذا نشاهد انسحاب هذا الأثر الإيماني على سلوك الإنسان المؤمن ظاهراً وواضحاً، فهو إذا أحسّ بالحاجة لجأ إلى الله، واثقاً بحسن إجابته، وإذا أساء واقترف السيئات، لجأ إلى الله يدعوه ويستغفره، ويعترف أمامه بذنوبه، ليريح نفسه، ويفرغ وجدانه من الألم وعذاب الضمير، فيجدد العهد على الاستقامة ويبدأ السير على هدى الله، وتحت ظلال عفوه ورحمته، فهو بهذه المصارحة، وبث الشكوى والأحزان بين يدي الله ينقذ نفسه من الكبت والآلام التي لا يمكنه الإباحة بها إلى أحد غير الله، فيتعرّض للفضيحة والانكشاف الذي يخشاه ويخافه .

لذا فهو يفرغها بالبراءة والاستقالة منها، وبالاعتراف بها، وكم يكون هذا الإنسان سعيداً عندما يقف بين يدي الله العظيم، وهو يحسّ بكل دوافع الإحساس الصادق، أنّ الله يغفر له ذنبه، ويقبل توبته، وأن طريق العودة مفتوح أمامه، وأن الذي يسأله العطاء والعون هو القادر على تلبية طلبه، ومساعدته على الخلاص من محنته وشدّته، فتعود إلى نفسه الطمأنينة، ويحلّ الرجاء والرضى، بدل اليأس والسخط والقنوط ، والإنسان بدعائه ووقوفه بين يدي الله، يعاهده على الصدق في الاستقامة، والالتزام بالسلوك الخيّر، والإقلاع عن الجرائم والآثام، فهو بهذه الوقفة التي تكون فيها النفس في حالة صحو وجداني، واستعداد للتلقّي والقبول الايحائي الخيّر الذي يردّده بعبارات الدعاء، إنما يشهد على نفسه، ويحاول الانسحاب من عبثيته، وإعادة تنظيم ذاته، وبناء شخصيته، بالعمل على ردّها عن طغيانها، وصدّ خروجها عن الحدّ الطبيعي الذي تبتلى به وبذلك يعمل على حذف التعدّي والطغيان، ويتجه نحو طلب الكمال والاستقامة، والسعي تجاه السمو الأخلاقي، الذي يستوحيه من فيوضات الخير والكمال الإلهي، فيحقق بهذا الاتجاه الذي يصدر عن رغبة، وتوجّه صادق، اتزان القوى النفسية، وتنظيم سير حركتها( البستاني ، 1988: 56 )  .

أنّ الدعاء يفقد معناه عندما تتحول المناجاة إلى عبارات ميّتة جوفاء، وصيغ خاوية مفرغة من صدق الإحساس، ووعي الانفعال، وصفاء التأمل، بعيدة عن الاخلاص والالتزام بما يدعو الإنسان بالتوفيق إليه . وللدعاء بعد ذلك دوره الفعال في تنمية مشاعر الحب، وإخصاب روح الإحساس بجمال الخير، الذي لا يستغني الإنسان عنه في حياته، لأنّ الجوّ العبادي والبث الروحي الذي يخلقه الدعاء يساهم في بناء أخطر جوانب النفس الإنسانية، وأكثرها أثراً في حياة الإنسان ، وهو الجانب الذي يفيض اشباعه على النفس الإنسانية أحاسيس الرضى والشعور بالمتعة والنشوة الروحية ، فالدعاء سانحة روحية يستقبل فيها الإنسان عبقات الحب والإحساس بالجمال الإلهي الذي يستشعره الداعي بانفتاح الروح، وامتداد آفاق الوعي، وتمحّض صفاء النفس، ليعانق المؤمن أسعد لحظات الاستمتاع الروحي، والشعور بالسعادة التي مابرح غيره يبحث عنها في وسائل الاشباع المادي وأساليب التعبير المنحرف، كالرقص والغناء ووسائل الطرب، وغيرها من الأدوات الإنسانية التي تستعملها الحضارة الجاهلية في التعبير عن أحاسيس الإنسان وأشواقه الجمالية وتوجهاته النفسية والعاطفية ، هذه الأدوات التي تسلك بالنفس الإنسانية طريق الانتكاس والانقلاب الغائي الذي يشوه جمال الروح ويذيب مشاعر الاستقرار والطمأنينة بتأليب محفّزات الغريزة، وتحريك الانفعال الغريزي الاعمى، فالانتهاء إلى حالة من التوتر والاضطراب النفسي والعصبي لدى الإنسان ( الكواز ، 2012 : 46 ).

 

 

الاستنتاجات : وفي ضوء ذلك يمكن التوصل الى الاستنتاجات الاتية :

باستقراء وتحليل ما ورد عنهم من أدعية ومناجاة نستطيع أن نكتشف البعد الفكري والهدف التربوي والمعاني الفكرية والتربوية الآتية:

اولاً: التعريف بالعقيدة، وعرض مفاهيمها، وتركيز مبادئها في النفوس، كالتوكل، والشكر والتقديس، والتعريف بالله تعالى، وبصفاته، وعظمته، ومحاولة شدّ المسلم بكل وجوده واتجاهه إلى الله سبحانه

ثانياً: تربية الضمير، وذلك بتنمية الإحساس بالخطأ، والاعتراف بالذنب، مع توفير جَوّ يُشْعِر بالراحة والتخلص من التبعات، بالاستغفار والضراعة إلى الله، وطلب الاستقامة والتسديد منه تعالى . ثالثاً: تربية الاخلاق، وتقويم السلوك وتنمية مشاعر الحب والخير في النفس الإنسانية . وهكذا نشاهد أصالة الروح الإسلامية ونقاءها تبرز واضحة في أدعية أهل البيت (عليهم السلام) ومناجاتهم الكثيرة، التي فاضت بها كتب الادعية والمناجاة المأثورة عنهم، وهي ترسم صورة وعيهم، وعمق فهمهم للإسلام، فكان دعاؤهم (عليهم السلام) رشحات نفوسهم، وإشعاع وعيهم، وعطاء ذواتهم

وكان دعاؤهم (عليهم السلام) ثروة فكرية وروحية بين يدي الاجيال المسلمة، ودعوة أخلاقية وتربوية رائعة تستهدف بناء الشخصية المسلمة، وتتوخّى شرح فكرة الإيمان، بنقائها وأصالتها القرآنية السليمة .

 

 

 

 

 

 

 

المصادر :

اسماعيل ، علي سعيد . ( 1991). اتجاهات الفكر التربوي الاسلامي ، القاهرة : دار الفكر العربي . ( 1993 ). رؤية اسلامية لقضايا تربوية ، القاهرة : دار الفكر العربي . البستاني ، محمود . ( 1988). دراسات في علم النفس الاسلامي ، بيروت : دار البلاغة للطباعة والنشر الجلالي ، محمد رضا . ( 2012 ). ادب الدعاء في الاسلام ، موقع الانترنت . الجمالي ، محمد فاضل . ( 1966 ) .الفلسفة التربوية في القران ، بيروت : دار الكتاب الجديد الطرابلسي ، محمد الهادي . ( 1988) . بحوث في النص الادبي ، تونس : الدار العربية للكتاب الكواز ، محمد كريم .( 2012 ) . النص والخطاب في الصحيفة السجادية ، بغداد : منشورات كلية الامام الكاظم عليه السلام . القزويني ، علاء الدين .( 1986 ) .الفكر التربوي عند الشيعة الامامية ، الكويت : مكتبة الفقيه. مدن ، يوسف . ( 2006 ) . التعلم والتعليم في النظرية التربوية الاسلامية ، بيروت : دار الهادي .   ملحم ، سامي محمد .(2000) . القياس والتقويم في التربية وعلم النفس ، عمان : دارالمسيرة .

 

gate.attachment