القلب في القرآن الكريم

للقلب مكانة خاصة في القرآن الكريم، والمراد به هنا ذلك الجوهر المجرد الذي ترتبط به انسانية الانسان. فهو عبارة اخرى عن النفس الانسانية، ولذا تنسب اليه الاعمال النفسية من قبيل التعقُّل والايمان والكفر والنفاق والهداية والرحمة والغفلة او الانزعاج والخوف والرعب، وهو محل الشهادة أو إنكارها، ومحل الخير أو الإثم وغيرها من الحالات التي وردت في القرآن الكريم.  وذلك يبين الله تعالى ان وظيفة القلب هي التعقل ﴿فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا([1]) .

ويرد القلب في القُرآن الكريم على معان ثلاثة([2]): اوِّلها: العقل وذلك في قولة تعالى﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾([3]) أي قلب زكيّ حي ذكيّ، يتذكَّر إذا سمع كلام الله، وإلا فوجوده من عدمه سواء؛ لأنه معطل عن جانبه المعرفي والإرادي، قائم بدوْرِه الجسماني فقط، وهذا شائع في استِعمالات العرب في حال من لا يتَّعظ([4]) .اما الثاني: الرأي والتدبير، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾([5])  ، ثالثاً: حقيقة القلب الذي هو في الصَّدر؛﴿وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ﴾([6]).

سلامة القلب ومرضه

ان كل أعمال الانسان تنبع من قلبه ولذا هو مفتاح السعادة ومن الضروري ان يعتنى به، لأنه قد يُصاب بالمرض، يقول الله تعلى ﴿في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ ([7]) والامراض التي تصيب القلب كثيرة كالكفر والنفاق، والتكبُّر، والحقد، والغضب، والخيانة، والعجب، والخوف، وسوء الظن، قول السوء، والتهمة، والغيبة، والظلم، والكذب، وحبُّ الجاه، والرياء، القساوة، وغير ذلك من الصفات السيَّئة، قال الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾([8]) ، وقد يكون القلب سليماً من هذه الامراض بقوله تعالى ﴿  يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾([9]) .

كما ان اللهُ عز وجل قد نسَب الإثم إلى القلب، فقال﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ ([10])  وذلك يعد الإثم جامعٌ لمطلق الذنب الذي يتدرَّج فيه القلب، من عموم المعاصي من صغائر وكبائر، حتى يَهْوِيَ به إلى الشِّرك الأكبر، فيختم أو يطبع عليه.

وكذلك يعد زيغ القلب مرضٌ من أمراض القلب التي بدأَتْ في طريق الانحدار، وهو بمعنى التمايل؛ يعني الميل عن الاستقامة، وقد ذُكِر زيغ القلب في ثمان مواضع من كتاب الله تعالى، ارتبطت بالقلب في أربعة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾([11]) ولذا قال النبي الاعظم "صلى الله عليه اله" لأم سلمة: "يا أم سلمة، ما من آدمي إلا وقلبُه بين إصبعينِ من أصابع الله عز وجل، ما شاء أقام، وما شاء أزاغ" ([12]).

ومن امراض القلب الخطيرة هو غلُّ القلب وقد ورد هذا المرض في القرآن الكريم، في قوله تعالى﴿ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾([13]) اي ورود الغلُّ بمعنى الغشِّ، والعداوة، والضغن، والحقد، والحسد، والدغل، والنفاق، والحقد الكامن، والخيانة والشر، هذه أمراضُ الصدور عندما تُمكَّن تتخلل القلب بلطف، حتى تتمكَّن منه وتُصبِح صفة يوصف بها القلب.

وعليه يمكن القول ان امراض القلب ذات أثر خطير، لأنه اذا كانت امراض البدن يقتصر ضررها على الدنيا فان امراض القلب يعم ضررها الدنيا والاخرة معاً وتوقع الانسان في الشقاء الابدي ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلً﴾([14]) .

القلب في الاحاديث

ركُّزت الاحاديث الواردة عن الائمة المعصومين "عليهم السلام"، على مسألة القلب، فعن الامام الصادق " عليه السلام ": " إعْرَابُ القُلوب على أرْبَعةِ أنْوَاعٍ : رَفْعٌ وفَتْحٌ وخَفْضٌ ووَقْفٌ، فَرَفْعُ القَلْبِ في ذِكْر الله، وفَتْحُ القَلبِ في الرِّضا عَنِ الله، وخَفْضُ القَلْبِ في الاشتِغَالِ بِغَيرِ الله، ووقْفُ القَلْبِ في الغَفلَةِ عَن الله"([15]).

يبدو ان الامام "عليه السلام اراد ان يبين لنا سلوك الاتزان البشري, أي ان الدين القويم له أربع علامات في تشريع الاسلامي هي : العقائد, والعبادات, والأخلاق, والمعاملات, فيتحدد في ضوئها سلوك العباد على أربعة متطلبات لا ينبغي أن تقصر عن الإيفاء: عبادية "كالصلاة, وصوم...", ونفسية "كالاتزان في الرضا والغضب.." , وأخلاقية " كتحري الصدق...) , ولذلك أراد الامام الصادق "عليه السلام" ان يؤكد في حديثه ان العبد إذا ذكر الله بالتعظيم خالصاً ارتفع كل حجاب كان بينه وبين الله، وإذا انقاد القلب لمورد قضاء الله بشرط الرضا عنه كيف ينفتح القلب بالسرور والروح والراحة، وإذا اشتغل قلبه بشيء من أسباب الدنيا كيف تجده بعد ذلك منخفضاً كبيت خراب خاوياً، وليس فيه العمارة ولا مؤنس، وإذا غفل عن ذكر الله كيف تراه بعد ذلك موقوفاً محجوباً قد قسي وأظلم منذ فارق نور التعظيم . فعلامة الرفع ثلاثة أشياء: وجود الموافقة، وفقد المخالفة، ودوام الشوق وعلامة الفتح ثلاثة أشياء: التوكل والصدق واليقين، وعلامة الخفض ثلاثة أشياء العجب والرياء والحرص، وعلامة الوقف ثلاثة أشياء زوال حلاوة الطاعة، وعدم مرارة المعصية، والتباس العلم الحلال بالحرام([16]) .

وقد وردت الاحاديث الكثيرة عن أهل البيت "عليهم السلام" تؤكد على سلامة القلب، فهو محرك الأخلاق، وموجه التصرفات، فإذا صلَح صلَحت كل الأعمال والأخلاق، وإذا فسد فسدت كل الأعمال والأخلاق فعن عن الإمام الباقر "عليه السلام" قائلا :" القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي على شئ من الخير وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان فما كان منه أقوى غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن([17]) ، وما يستفاد من هذا الحديث هو أن القلب ينقسم الى ثلاثة أقسام : قلب الكافر: اي قلب انحراف عن فطرته فلا خير فيه، ولم يعد له من هدف الا الدنيا واعراض عن ربه فأصيب بالعمى وغشيته الظلمة؛ ثانيا : القلب المؤمن ، قلب قِبلتُهُ الله، أضاء فيه مصباح الايمان يرغب في العمل الصالح ومكارم الاخلاق ، وعيناه مبصرتان بنور ايمانه؛ ثالثا: القلب المنكّت وهو قلب فيه من نور الايمان لكن فيه ايضا من سواد المعصية، وخيره وشره في حال صراع فما غلب منهما سيطر على هذا القلب.

وذلك اذا اردنا ان نحافظ على سلامة قلوبنا ونتجنب الامراض فلا بدّ من الطبيب الحاذق، أما أطباء القلوب ، فهم الانبياء "عليهم السلام" لانهم العارفون بحقيقة القلوب وما يصلح لها وطرق علاجها ولذا كان النبي الاكرم "صلى الله عليه واله "،عندما يُطلَب منه نصيحة، كانت إجاباته مختلفة، أي أنه كان ينصح كل شخص نصيحة مختلفة عن الآخر، وذلك لأن لكل واحدٍ منهم مرضه، والنبي الاكرم "صلى الله عليه واله "، طبيب النفوس، فهو طبيبٌ دوّارٌ بطبه كما وصفه الإمام امير المؤمنين علي "عليه السلام" فيقول :" طبيب دوَّارٌ بطبهِ، قد أحكمَ مراهِمَهُ، وأحمى مواسِمَه، يضعُ ذلكَ حيثُ الحاجة إليهِ مِن قلوبٍ عُميٍ، وآذانٍ صُمٍ، وألسنةٍ بُكم.. متتبعٍ بدوائهِ مواضعِ الغفلةِ، ومواطنِ الحيرة" ([18]).

جعفر رمضان

 

([1] )  سورة الحج : الآية 46

([2]) محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، صائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق: محمد علي النجار - عبد العليم الطحاوي، (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية،1996) ، ج4، ص 289.

([3] ) سوره ق، الاية 37

([4]) محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي،(بيروت: مؤسسة الرسالة،2006)، ج17، ص23.

([5]) سورة الحشر: الآية 14

([6]) سورة الحج: الآية 46

([7]) سورة البقرة: الآية 10.

([8]) سورة التوبة: الآية 125.

([9]) سورة الشعراء: الآية 88-85. .

([10]) سورة البقرة: الآية 283.

([11]) سورة ال عمران: الآية 8  .

([12]) علي النمازي الشاه رودي، مستدرك سفينة البحار، تحقيق: حسين علي النمازي،(قم المقدسة: مؤسسة النشر الاسلامي، 1418)، ج ٨ ، ص ٥٦٧.

([13]) سورة الحشر: الآية 10 .

([14] ) سورة الاسراء: الآية 72 .

([15]) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، تحقيق: احياء الكتب الإسلامية ،(قم المقدسة: احياء الكتب الإسلامية،1430ه) ، ج67، ص55 .

([16] ) مصباح الشريعة للإمام جعفر الصادق، ( بيروت: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات،)، ص3

([17] ) محمد باقر المجلسي، المصدر السابق، ج7، ص51.

([18] ) لابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، (منشورات مكتبة ابة الله العظمى المرعشي النجفي، دار احياء الكتب العربية)، ص108.

gate.attachment