التربية والاصلاح الاجتماعي في القرآن الكريم ... سورة لقمان انموذجا

 

في الحياة آفاق نجهلها ونجهل التعامل معها ومن رحمة الله بعباده انه أنزل اليهم كتاباً فيه ما يحتاجون اليه من المناهج الصائبة في الحياة ومن ابرز هذه المناهج هي الحكمة التي يقول عنها الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾([1]). ولهذا ان اهمية القيم التربوية في القرآن الكريم هي توجيه الفرد وارشاده، واصلاح المجتمع من الانحرافات الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الاسلامية بسبب اعتمادها على مناهج وفلسفات الاخرين، مما ادى الى ابعاد الاجيال عن قرآنها وهجره وبالتالي تحلل المجتمع وانحرافه وانتشار الظواهر السلبية في المجتمع([2]).

سوره لقمان قد احتوت على الكثير من ابعاد الحكمة في التربية والاصلاح الاجتماعي، ولكن يا ترى كيف نستفيد منها؟

وضع السورة في المصحف :

هي السورة السابعة والخمسون وفق نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات، وقبل سورة سبأ، وهي السورة الواحدة والثلاثون بحسب ترتيب المصحف الشريف، ومجموع آياتها اربعة وثلاثون آية، اما كلماتها خمسمائة وثمان واربعون كلمة، وعدد حروفها الفان ومائة وعشرة احرف([3])، وتعد هذه سورة من السور المكية، وان السور المكية تعد من افضل النماذج في مخاطبة العقل البشري، اذ انها تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين اللذين انحرفوا عن العقيدة السليمة، وذلك ان اغلب القضايا التي تعالجها السور المكية في اساليب متنوعة هي قضية العقيدة، حيث انها تحرك العقل البشري من جميع جهاته وجوانبه بكل المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها([4]). 

اساليب التربية واصلاح المجتمع في سورة لقمان .

لقد صبغ القرآن الكريم موضوعاته بصيغة الوعظ والارشاد في سياق موحد لتؤدي عملها التربوي الهادف الى تطهير النفس البشرية، ولعل هذا ما نلاحظه حين يخاطب القرآن الفطرة الانسان، ولقد استظهر القرآن في تصويره فعاليات متعددة من حيث التوجيه التربوي ليهتدي الانسان في ضوئها، وهي فعاليات الترغيب والترهيب والقدوة الحسنة، او ما يسمى بالموعظة والاعتبار بالقصص فقد سلك القرآن في اسلوبه سياقات مثالية ليضرب بذلك طرقاً شتى في التربية والاخلاق والسلوك الفطري السليم. ومن ابرز تلك هي:   

اولاً: اسلوب التربية بالتأمل في الآيات الكونية.

يأتي هذا الاسلوب لدفع شبه القوم الكافرين في انكار وحدانية الله تعالى فجاء في قولة تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾([5]) والحقيقة التي يؤكدها القرآن في منهجه التربوي هو العقيدة اذ لا تربية بغير ايمان فيعرض القرآن عقيدة الانسان في نقطة مهمة هي الايمان بوحدانية الله في الذات والصفات والخلق، اذ توفر العقيدة الاطمئنان بالسعادة والحياة الدنيا والاخرة وتحمي الانسان من الضياع حيث تضع الانسان في موضعه الصحيح .  ثم يسوق القرآن مثالاً فريداً ليضرب بذلك مثلاً رائعاً الى مشهد الخلق الكوني المتكامل والمتناسق وهذا التكامل يبين ان خالق هذا الكون يستحق الحمد بقوله بسم الله الرحمن الرحيم﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ([6]) .

ثانياً: اسلوب التربية بالترهيب والترغيب.

وهو أسلوب أستعمله القرآن الكريم ليذكر به المؤمنين بما يوفر لهم ربهم من نعيم في الجنة على ما اجتهدوا وصبروا عليه في الحياة الدنيا ، فينالوا افضل الدرجات في الاخرة، كما انه تذكرة وتحذير للكافرين بالنار، والعذاب الشديد جزاء صنيعهم وتعنتهم وجحودهم([7]) وبذلك يمكن ان يعد اسلوب الترغيب والترهيب، في هذا المجال مسألة لا بديل عنها في توجيه الانسان ويحفزه على التعلم وتجنب الوقوع في الخطأ، والقرآن حين يخاطب الانسان لا يفوت عليه فرصة في الدعوة الحسنة بالتحذير من سوء العاقبة  وقد جاء هذا الاسلوب في سورة لقمان بقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([8]) يتضح من هذه الآية ان القرآن استعمل في خطابه للإنسان اسلوب الترغيب، بينما في موضع اخر يستعمل اسلوب الترهيب والتهديد  وذلك في قوله بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾([9]) .

ثالثا: اسلوب التربية بالوعظ والارشاد. 

ان للقرآن الكريم طريقته الخاصة في لمس القلوب، واستجابة وجدانها الى حقيقة الالوهية ، اذ ان التربية في القرآن الكريم تركز على الوعظ والنصيحة، فالنفس الانسانية لديها الاستعداد للتأثر بما يلقى اليها من كلام، وهو استعداد مؤقت في الغالب  ولذلك يلزمه التكرار، والموعظة المؤثرة تفتح طريقها الى النفس مباشرة عن طريق الوجدان  وبذلك ان الوعظ والارشاد كلاهما وسيلة من وسائل التربية، وعامل من عوامل التعلم عليهما قامت الرسالات السماوية، وبهما نهضت دعوات الاصلاح الاجتماعي، وان هذه الوسيلة اساس بناء الامم ([10]).

وذلك نجد القرآن الكريم يهتم بهداية الانسان منذ طفولته لذا كان يحفز الاباء على الدعاء بالولد الصالح، ونجد هذا واضحاً في سورة لقمان، يبين مدى شفقته لابنه حيث يبداً كلمته بقوله ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ للتأكيد على عامل الأبوة يدفعه لنصحه بعدم الشرك بالله ،  ثم يؤكد﴿ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ  ﴾([11])، اي ان لقمان الحكيم "عليه السلام" نهى ابنه عن الشرك بالله وعبادة ما لا يضر ولا ينفع، حيث كان هذا النهي مقترن بالترغيب والترهيب اي انه بين له السبب في ذلك كونه امرا عظيماً([12]).

في الوقت نفسه القرآن يبين ان الانسان منظومة لها صفاتها الخاصة، ولكنها محكومة بعلاقات وقواميس مع بقية المخلوقات التي تشكل معا منظومة وهي الاسرة والمتمثلة بالوالدين، وبذلك هم المصدر الرئيسي في التربية وطاعتهما واجبة، كما بين القرآن الكريم في كثير من الآيات، وذلك اذا ادرك الاولاد اهمية بر الوالدين ستكون التربية ناجحة، وهذا ما تؤكد عليه سورة لقمان بقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم  ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  ﴾ ([13]) .

ومن الاساليب التربوية المعروفة في القرآن الكريم هو اسلوب الشكر في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ ، فالشكر يؤثر في اعماق النفس الانسانية فتحرك دوافع الخير في الانسان، وذلك ينبغي ان يكون الشكر لله اولاً، ويليه الوالدان لان الله هو خالقهما، وهو الذي القى بحب الاطفال في قلبيهما، ولولاه ما كان الاباء والامهات ينجذبون الى صغارهم ابدا([14]) .

رابعاً: اسلوب التربية باستشعار مراقبة الله تعالى . 

يعلمنا القرآن الكريم كيف نفكر بعمق دون التوقف عند حد الامور الجزئية او الاكتفاء بالنظر الى الظواهر، فالله تعلى يراقبنا وهو عليم بكل شيء ولا تخفي عليه خافية، اذن ان مراقبة الله واستشعار عظمته والخوف منه من أعظم العبادات وأهم الواجبات على الانسان، وقد حذر الله تعالى من الغفلة اذ قال بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾([15])، وذلك ان القرآن ينزل تثبيتاً وتدعيماً لهذه التربية ويؤكد بان الله  يصل علمه الى كل خفي فاذا عمل احد سيئة او حسنة وان كانت مثقال حبة وزاد في خفاء الحبة مع خفتها يعلمها الله ويحضرها ويحاسب فاعلها([16]) ، فهذا لقمان الحكيم "عليه السلام" يربي ابنه فقال له ناصحاً وموجهاً ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ ([17]) .

ثم يؤكد القرآن الكريم على الانتقال من تعليم اصول العقيدة الى تعليم اصول الاعمال الصالحة فابتداها بإقامة الصلاة ، والتوجه الى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء وتقوى الله ، والامر بالمعروف والاعمال الصالحة كمكارم الاخلاق ومحاسن الافعال مما يهذب النفس، والنهي عن المنكر اي منع النفس والاخرين من المعاصي والمنكرات المحرمة التي تغضب الله ، كما في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ([18]).

خامساً: التحذير من الكبر والعجب

ان مجمل النصوص القرآنية تحرضنا على نبذ ثقافة الاستكبار، وتعلمنا الالتزام بحقوق الاخرين وتنمية فضيلة احترام الحرمات، حيث ان السورة بينت ان لقمان الحكيم نصح ابنه اجتناب الكبر اي هنا انتقل لقمان بولده الى الآداب في معاملة الناس وعدم احتقار الناس وان لا يميل بوجهه عنهم تكبراً ، وان غض الصوت ادباً مع الناس ومع الله سبحانه وتعالى وان انكر الاصوات وافظعها وابشعها لصوت الحمير،  اذ قال بسم الله الرحمن الرحيم﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ ([19]).

سادساً: اسلوب التربية بضرب الامثال

هو اسلوب تربوي استعمله القرآن الكريم لينير العقل ويدعو الى التدبر والتفكر والتأمل من اجل تثبيت اليقين والايمان في القلوب، ولذلك نجد في سورة لقمان هذا الاسلوب حيث يقول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([20]) كذلك في قولة تعالى  ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾([21]) .

جعفر رمضان

 

 

(([1] سورة البقرة: الآية:269

([2]) للمزيد من التفاصيل ينظر: محمد حسن، الفكر التربوي الاسلامي ،(الاردن: دار المسيرة،2000)، ص 85؛ طبال لطيفة، أزمة التربية في المجتمعات العربية،( الجزائر،2009)، ص32.  

([3] ) محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي ،2000)،، ص86؛ وهبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج،(دمشق: دار الفكر المعاصر،1418)، 124؛ لابي الحسين احمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون،( دار الفكر، 1979) ، ص.260.

(([4] ابراهيم قطب، في ظلال القرآن،( بيروت : دار المشرق، 1979)، ج5، ص2780

([5] ) سورة لقمان : الآية 10

([6] )سورة لقمان: الآية  29.

([7] ) محمد الغزالي، الجانب العاطفي في الاسلام،( مصر: شركة النهضة،2005)، ص105.

([8] )سورة لقمان: الآية  8-9

([9] )سورة لقمان: الآية  6-7

([10] ) محمد قطب ، التربية الاسلامية،( بيروت: دار الشروق،1988)،  ص 178.

([11] ) سورة لقمان : الآية 13.

([12] ) عبد الرحمن السعدي، تفسير السعدي، (مؤسسة الرسالة، 2000)، ص 648.

([13] ) سورة لقمان : الآية 14-15.

([14] ) محمد تقي المدرسي، بيانات من فقه القران، سورة لقمان، (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2010)،، ص149.

([15] ) سورة البقرة: الآية  235.

([16] ) للمزيد من التفاصيل ينظر: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فتح القدير "الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير"، (بيروت: دار الفكر)

([17] ) سورة لقمان : الآية 16

([18] ) سورة لقمان : الآية 17

([19] ) سورة لقمان : الآية 18-19.

([20] ) سورة لقمان ، الآية 7.

([21] ) سورة لقمان ، الآية 27.

gate.attachment