الخطبة الدينية للشيخ عبد المهدي الكربلائي من الصحن الحسيني الشريف بتاريخ 24 ربيع الثاني 1439 هـ الموافق 12 /01 /2018 م

الانسان المؤمن يعتقد ان الله تعالى يقدر له من المال والجاه والمنصب والصحة والامتيازات الاخرى بقدر المصلحة التي تنفعه في الدنيا والاخرة

 النص الكامل للخطبة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي انقطعت اليه كل علة وله انتهت كل قدرة ولإرادته خضعت كل ارادة، وبه تعلّق كل سبب، واليه توجَّه كل طلب ورجع كل امر، فهو الله رب العالمين ومالك ازمتهم اجمعين، واشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا (صلى اله عليه واله وسلم) عبده ورسوله بعثه لخير الاديان وأيده بمعجزة القرآن، صلوات الله وسلام عليه وعلى آله سادات الانس والجان.

اوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك اوصي نفسي بتقوى الله تعالى والايمان به وبرسوله واهل بيته (عليهم السلام) ومعرفة حقهم، وقوا انفسهم واهليكم ناراً غليظةً وقودها الناس والحجارة واسعوا الى صلاح انفسكم وتطهيرها من مذام الصفات وسيئ الافعال.

أيها الاخوة والاخوات ما زلنا في كلمات سيد البلغاء امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليهما السلام) فقال من ضمن كلامه لرجل سأله ان يعظه: (لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو اَلآْخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَ يَرْجُو اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ يَقُولُ فِي اَلدُّنْيَا بِقَوْلِ اَلزَّاهِدِينَ وَ يَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ اَلرَّاغِبِينَ إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ وَ يَبْتَغِي اَلزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ يَنْهَى وَ لاَ يَنْتَهِي وَ يَأْمُرُ اَلنَّاسَ بِمَا لاَ يَأْتِي).

من عظم هذه الموعظة أن قال عنها الشريف الرضي الذي جمع وحفظ خطب نهج البلاغة (ولو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظةً ناجعةً، وحكمةً بالغةً، وبصيرةً لمبصر و، عبرةً لناظر مفكّر).

نذكر اولاً ما هو الغرض من الموعظة، وكيف ان الشرائع الإلهية والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) جميعاً اهتموا بها، ويراد منها ارشاد الجاهل وتنبيه الغافل وتنشيط الكاسل بأمور الدين ربما يكون الواحد منا جاهلاً هذه الموعظة تعلمه وترشده وربما يكون غافلاً هذه تنبه من غفلته، وربما يكون منتبهاً ولكن ينتابه الكسل والاتكال واللامبالاة، وتفوت عليه منافعها، فإذاً الموعظة لإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وتنشيط الكاسل وهي من المهام الاساسية للشرائع الالهية، ومن المهام الاساسية للأنبياء والأوصياء من اجل فتح القلوب للقوانين الالهية وتقبُّلها من غير اجبار.

نال المسلمون كافة مواعظ كافية وشافية وهذه الموعظة بينت اصول الرذائل التي هي سبب لأمراض القلوب ونبهت على كيفية معالجتها.

ويقول (عليه السلام): (لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو اَلآْخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَ يَرْجُو اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ...).

قانون الحياة قائم على ان الانسان لا ينال مطالبه في الامور المادية الا من خلال نتاج سعيه وكده وحده، ولابد ان يسعى ويستثمر طاقاته وامكانياته، اما بمجرد ان يتمنى ويأمل ويرجو، فان لا قيمة ولا اعتبار لهذه الاماني وتعتبر اماني كاذبة كلما كان الشيء مطلوب للإنسان اعظم وارقى كان محتاجاً الى سعي وجهاد اكبر؛ لأنه اعلى مرتبة، هذا في الامور الدنيوية.

أما بخصوص الأمور الأخروية التي فيها النعيم الذي وصفه القرآن الكريم والاحاديث الشريفة، وما هو في الاخرة لا يخطر على بال احد ولا يسعه خياله أن يرسم صورة لهذا النعيم الدائم.

لذلك اخواني ماذا نستفيد من هذه العظة؟ اذا اردت جنات النعيم والجنة فيها مراتب ليس كلها على حد سواء بعضها اشرف من البعض الاخر، وهذا يعتمد على مرتبة العمل الصالح والعلاقة بالله تعالى، اذا كان لديك امل صادق وترجو الله تعالى، فعليك بالسعي والمبادرة واستثمار وقتك ما بقي من عمرك لكي تقوم بالعمل الصالح الذي يحقق رجاء الآخرة.

فالمطلوب من المؤمن اولاً: النجاة والخلاص من العقاب والعذاب، ثانيا: نيل الجنة، الأمر الأول يأتي بالعمل الصالح، المشكلة هنا ان الانسان هو خطاء وخير الخطائين التوابون ودائماً ما يرتكب الذنوب والمعاصي، يحتاج ان يلتفت الى معصيته وذنبه ويتوب التوبة الصادقة، التوبة الصادقة تحتاج الى عمل طويل فقد يكون مقصرا في الامور العبادية مع الله تعالى، وقد يكون مقصراً في الحقوق المالية، قد تكون عليك حقوق مالية لإنسان ما فعليك ان تسعى حتى تبرئ ذمتك من المال.

ما معنى (طول الأمل)؟

إن الانسان يعتقد ان حياته وعمره طويل، ويقيس عمره بعمر الآخرين ويكون له طول امل في الحياة، ويمكن ان يتوب في الأمور الدنيوية، وقد يؤخر التوبة ويغتر بشبابه وصحته وقوته.

إن الاعمار تقدر من الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحكم بالحياة والعمر، لذلك قد يفاجئ الانسان الموتُ وسجلاته مملوءة بالذنوب والمعاصي وتفوته تلك الامور من هنا الامام (عليه السلام) يقول: (لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو اَلآْخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَ يَرْجُو اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ...).

التفتوا الى هذا الحديث وهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله ( ايها الانسان انه ليس بين الله وبين احد شيء يعطيه به خيراً او يصرف عنه به شرًّا) فلا توجد صلة بيننا وبين الله تعالى لكي يصرف عنا الشر وليس لنا الا  العمل الصالح، ولو عصاه الانسان فعليه ان يبادر ويسارع الى التوبة.

لاحظوا النبي الاكرم صلى الله عليه وآله يقول: لا يدع مدع ولا يتمنى متمن انه يرجو  الا بعمل ورحمة.

لا يغتر الانسان بعمله وعباداته الصالحة فلابد من العمل مع طلب الرحمة من الله تعالى، ويقول الرسول الاكرم  صلى الله عليه وآله: لو عصيت هويت، مع انه صاحب منزلة عظيمة ثم قال اللهم هل بلغت قالها ثلاث.

لابد ان يلتفت الانسان ويسارع الى التوبة وان يجد ويجتهد في الطاعات لذلك اخواني ابحثوا في ماضيكم وسجل اعمالكم اولا: أسالوا انفسكم ما هي الذنوب والمعاصي؟ ما هي الآثام ؟ما هي حقوق الله تعالى؟ ما هي حقوق الناس؟ ربما الانسان غير ملتفت الى هذه الامور وقد يكون مقصر، لا يعرف هذه الامور، يجهلها او يعرفها لكنه لا يبالي ، يقول ان لي عمر طويل وسوف اتوب فيما بعد.

ثم يقول (عليه السلام): (مسوف نفسه بالتوبة من هجوم الاجل على اعظم الخطر) الذي يؤجل التوبة الى وقت آخر، لابد ان يراقب الإنسان نفسه ويحذر ويبادر الى التوبة عاجلاً، ثم يقول عليه السلام: يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين.

ويحذر الامام (عليه السلام) في هذا المقطع من الازدواجية والتناقض بين الأقوال والأفعال والظاهر والباطن، البعض يتظاهر بأنه من الزاهدين في الدنيا ولكن اعماله مخالفة، فالمشكلة في هذا الانسان ان لسانه لا يعكس حال قلبه، انظروا إلى قلوبكم هل فيها تعلقٌّ في الدنيا وينعكس على حرصك على الدنيا، توقف، اصلح نفسك اولاً واعمل بما تقول ثم بعد ذلك ادعو الى الزهد في الدنيا، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا المعنى في قول الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».

ثم يقول(عليه السلام): (إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ) إذا أعطي الانسان من نعم الدنيا لا يشبع، وكلما أعطي نعمة يحرص ان ينال المزيد والمزيد، ولا يتوقف عند حد، وان منع ليس لديه القناعة، يتأسف، يتضجر يتأفف تظهر عليه الكثير من التصرفات التي تدل على عدم قناعته.

الانسان في غريزته يحب ازدياد النعم ولكن المؤمن يضبط غريزته وفق ما يريده الله تعالى بأن لا يقع بالجشع والنهم والحرص على امور الدنيا، لذلك يقول الامام ضع حداً لهذه الغريزة، وإذا اثرت هذه الغريزة على آخرتك وعبادتك واعمالك الصالحة توقف، هنا هذه الغريزة اصبحت خطرا عليك، ثم ان منعت منها فإن هذه النعم بيد الله تعالى قدّرها وفق المصالح للمؤمن، فاذا تعرض البعض الى ضيق في الرزق لا يعترض على الله تعالى؛ لان الله يعطي العباد على قدر مصالحهم، فاذا اعطي العبد اكثر من ذلك فسد ووقع في الضلال لذلك الانسان المؤمن يعتقد ان هذه النعم تنزل بقدر من الله تعالى لا وفق نشاطه وذكائه وحدقاته.

البعض يقول: ان الانسان ذكي عاقل نشط خبير في هذه الامور لذا ازدادت هذه النعم عليه، لا، هذه الامور بيد الله تعالى، الانسان المؤمن الذي يعتقد ان الله تعالى يقدر له من المال والجاه والمنصب والصحة والامتيازات بقدر المصلحة، فإذا منع من بعضها فلأن ذلك توافق مع مصالحه الخاصة فتنشأ من ذلك القناعة والرضا بقدر الله تعالى.

إن الجشع في الدنيا مثله كما في هذا الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) يقول (مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ) هذا الانسان الطماع والجشع في الدنيا يظل في طلب المزيد والمزيد الى ان يهلك بسبب جشعه، كذلك الظمآن الى الدنيا الذي لا يرتوي منها يحاول ان يزيد منها الى ان تقتله هذه الدنيا وتقتله صفة الجشع والطمع.

نسأل الله تعالى ان يجعلنا من المتعظين المنتفعين بهذه العظات والحكم البليغة، انه سميع مجيب.

بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)).

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

gate.attachment