فاجعة الطف وجريمة قطع الرؤوس ج2 (موقف الإسلام تجاه ظاهرة قطع الرؤوس)

موقف الإسلام تجاه ظاهرة قطع الرؤوس

لا شك ولا ريب في ثبوت التسالم الفقهي على حرمة التمثيل بالموتى مطلقاً، حتى وإن كانوا من الكفار والمشركين، بل إنّ الحكم ثابت في التمثيل بالحيوانات أيضاً؛ والروايات المعتبرة صريحة في ذلك[29]، ولم نجد أحد من فقهائنا خالف في هذا الحكم، بل الإجماع قائم عليه، قال صاحب الجواهر: «لا يجوز التمثيل بهم بقطع الأنف والأُذن ونحو ذلك... بلا خلاف أجده... بل أكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب وغيره وبين بعد الموت وقبله...» [30]. ويؤكد على ذلك أيضاً جلّ فقهائنا المتقدمين والمتأخرين[31].

و سنتناول بحث هذه المسألة من الزاوية الفقهية في قسمين:

القسم الأوّل: الحكم الفقهي لقطع الرأس قبل الموت أو بعده.

و الحديث عن هذا القسم يتضمّن فرعين:

الفرع الأوّل: قطع الرأس قبل موت صاحبه

إنّ قطع الرأس قبل موت صاحبه؛ ليُقتل بقطع رأسه، تُعدّ طريقة متّبعة وسنّة جارية لإزهاق روح الإنسان، وبه يتحقق الموت بالفعل، وهي الطريقة الأبرز لقتل الإنسان منذ قديم الأيام، وكانت هي الظاهرة الغالبة والحالة الجارية في القرون البعيدة، وحينما جاء الإسلام اتخذ هذه الطريقة العرفية السائدة ـ وفي بعض الموارد الخاصّة جدّاً ـ وسيلة وأُسلوباً لمعاقبة الجاني والمعتدي[32].

 وهنا ينبغي الالتفات إلى أن بعض الظواهر الاجتماعية الجارية والأعراف السائدة قد أقرّها الإسلام الحنيف لغايات وأهداف تتناسب وبعض التشريعات الإلهيّة، فقطع الأعناق ليست إلّا وسيلة من الوسائل المتعارفة التي جعلتها الشريعة الإسلاميّة أُسلوباً للعقاب، ولم يخرج الإسلام للناس ـ كما يدعي بعض الجهلة ـ بالسيف والقتل والدماء! فالإسلام دين السلام والرحمة والعطاء، وهو الذي يؤكد دائماً على أنّ الحدود تُدرأ بالشبهات، ويؤكّد على مبدأ الاحتياط في الدماء، وحرّم التقية فيها، وغيرها الكثير من الأحكام التي شُرِّعت في الإسلام لإحياء العنصر البشري.

نعم، هناك من البشر مَن يستحق العقوبة والمجازاة الصارمة، ما يصل به إلى حدّ القتل، وهو أيضاً من مظاهر العدالة الإسلاميّة، فلا تكون عقوبة القاتل والمعاند المحارب إلا القتل، مجازاةً بما جناه على النفوس البريئة عالماً عامداً معتدياً آثماً محارباً.

ففي مثل هذه الموارد قد يُصبح الإسلام ـ السمح الرحيم ـ شديد العقاب لمصلحة بني البشر؛ ولأجل الحفاظ على النظام، فيُمضي العقاب الشديد على بعض الجناة والمجرمين كي يحيى الكل، وتستقيم حياة الإنسان، وتكون في ذلك موعظة وعبرة للناس؛ لئلا يعتدي الإنسان على أخيه من بني جنسه. ذلك لأنّ الفطرة الإنسانيّة التي لم تُحافظ على طهارتها وسلامتها، والنفس الأمّارة بالسوء والوساوس الشيطانية قد تحوّل القلب الطاهر المنير إلى قلب أسود مظلم حاقد على البشريّة، يعتدي على أقرب الناس إليه حتى يحافظ على مصالحه الدنيويّة، فيقتل ويبطش وينتهك الحرمات، كما فعل قابيل وفرعون والنمرود ومشركو قريش وبنو أُمية وأتباعهم وبنو العباس وغيرهم، من جرائم إبادة بحقّ البشريّة إلى يومنا هذا، فأمثال هؤلاء المجرمين وسفّاكي الدماء ألا يستحقون العقاب الشديد والقتل والتنكيل؟!

وأما في غير هذه الموارد ـ التي شُرّعت أيضاً رحمة بالبشرـ يبقى الإسلام سمحاً رحيماً، عظيماً في مبادئه وتعاليمه السماوية، وهو في مورد العقاب أيضاً شرّع جملة من الضوابط والأُسس التي لا يصح أن يتجاوزها أيُّ مكلّف فيجور في العقاب، فجزاء القاتل القتل ضرباً بالسيف لا غير، كما كان هو المتعارف عليه آنذاك، ولا يحقّ لصاحب الدم التمثيل به، كضربه بالعصى أو إحراقه أو جرحه حتى يموت، بل لا يجوز الاقتصاص منه بسيف مسموم ونحو ذلك، فلا إفراط في الجزاء، وإن كان الجاني قد تعدّى وظلم وطغى وقتل، كل ذلك للحفاظ على النظام البشري العام في ضوء المبادئ الإسلاميّة السامية[33].

الفرع الثاني: قطع الرأس بعد موت صاحبه

لقد ورد التنصيص في الفتوى على حرمة قطع الرأس بعد الموت، بل تجب الدية في مثل هكذا جنايات، ولا يصح للمقتصّ ممارسة هكذا فعل؛ لأن أيَّ عمل من هذا القبيل بعد موت الجاني يعدّ من المثلة المحرمة، فلو عصى وليُّ الدم وتعدّى على جثّة المقتول لزمته الكفارة، قال السيد المرتضى في هذا المجال: «ومما انفردت به الإمامية القول: بأنّ مَن قطع رأس الميت  فعليه مائة دينار لبيت المال» [34]، وهذا من الأحكام الثابتة التي عليها مشهور فقهاء الإمامية[35].

فالإرهاب الأُموي وما تلاه من الإرهاب العباسي والسلفي الوهابي وما يسمّى اليوم بالإرهاب الداعشي، وما يمارسونه من القتل والتنكيل والتمثيل بالموتى، كلّه لا يمتّ إلى الإسلام ولا إلى مبادئه بأيّ صلة، فالإسلام أساسه الرحمة، وروحه العامة وأهدافه ملؤها الحكمة واللطف والتسامح والتعامل بالودِّ والبر والشفقة.

القسم الثاني: حكم التصرّف بالرأس بعد قطعه من اللعب به أو صلبه أو إهدائه.

لا شك ولا خلاف في انطباق حكم المثلة المحرمة على القسم الثاني؛ لانطباق عنوان المثلة على هكذا ممارسات، فلا يقصد من اللعب بالرأس المقطوع أو صلبه أو إهدائه وترك دفنه إلّا الهتك والسخرية والاستهزاء بصاحب الرأس، وهذا هو معنى المثلة المحرمة التي نهى عن ارتكابها إسلامنا الحنيف[36]، بل في الشريعة الإسلامية المقدسة حتى من حكم عليه الإمام بالصلب ـ كما في بعض الموارد الخاصة جداً[37]ـ فإنه مع ذلك لا يجوز إبقاؤه أكثر من ثلاثة أيام.

وأما قادة الإرهاب الأُموي، فقد انتهكوا في وضح النهار تلك المبادئ والأحكام الإسلاميّة، حينما رفعوا الرؤوس على أسنّة الرماح وعلّقوها في كافة البلدان المختلفة التي مرّوا بها، وبقيت من غير دفن أربعين يوماً، وهذا الفعل الإجرامي الوحشي من أوضح مظاهر التمثيل المحرم ومصاديقه، التي نهى عنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله.

مبررات قطع الرؤوس في الفكر الإرهابي

قد يستدل جملة من أتباع مدرسة الفكر الوهابي بإطلاقات وعمومات بعض النصوص الشرعية لتصحيح ممارساتهم الإجراميّة، من قتل للأبرياء ومثلة بأجسادهم، وهتك للأعراض وتعدٍ على الحرمات، فيسوقون أدلة واهية لإخراج أفعالهم من بحبوحة الحرام والإجرام، الى دائرة الشرعيّة والجواز، بل وينعتونها بالاستحباب، وأنّهم يمارسونها لطلب القربى ورضا الله تبارك وتعالى، وهناك مَن يتمادى في غيّه وضلاله مدّعياً أنّ ما يقوم به من جرائم إرهابيّة من أُصول الإسلام الحنيف!!

لكن لا يخفى على المسلم البصير ـ فضلاً عن العالم الخبير ـ أن ما من مطلق إلّا وقُيّد، وما من عام إلّا وقد خُصّص؛ ولذا كانت السنّة النبوية مقيِّدة لإطلاقات كثير من الآيات القرآنية الشريفة وحاكمة عليها، ومن تلك الأدلة المشمولة بهذه القوانين الأُصوليّة ما يستدلون به على مشروعية جرائمهم الوحشيّة، ونستعرض فيما يلي بعض أدلتهم مع إجابة موجزة عنها:

الدليل الأوّل: قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ  ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[38].

حيث إنّ الآية صريحة في كون مجازاة ومعاقبة المحاربين لله ورسوله ـ والذين يسعون في الأرض فساداً ـ بالقتل أو الصلب أو قطع الأطراف أو النفي من بلدانهم، وإطلاق النصّ وشموله دليل واضح على مشروعيّة هذه الأفعال في زماننا، وجواز اتباع هذه السنّة في مجازاة المعتدين، بل قد تكون هذه الممارسات بحق المعتدين من الفرائض الواجبة؛ لتكون رادعة لكلّ محارب ومفسد في الأرض.

لكننا في مقام الإجابة نقول: إنّ من الخطأ الفادح والواضح بمكان أن نكتفي في مقام الإفتاء بتفسيرنا العفوي للآية الكريمة والاعتماد على ظهور أو إطلاق مضمونها بالخصوص، بل تجب ملاحظة ما ورد من النصوص والأقوال في تفسيرها، وما وقع في دائرة هذا الحكم الوارد فيها من بحوث ودراسات فقهيّة.

وعند التأمل في مضمون هذه الآية المباركة، نلاحظ أن موضع البحث والاستدلال فيها يرتكز على فكرة ثبوت الحكم (وجوب القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف والنفي من الأرض والوطن)، وأنه يتعلّق بعنوانين نصّت عليهما الآية الشريفة وهما: (المحارب والمفسد في الأرض)؛ ومن هنا ينبثق هذا التساؤل المهمّ في المقام: مَن هو المحارب لله ورسوله؟ ومَن هو المفسد في الأرض؟ فهل كل مقاتل ومحارب في الجبهة المقابلة ينطبق عليه عنوان محاربة الله ورسوله والسعي للإفساد في الأرض؟ وهل الحكم والجزاء الثابت في المقام ترتيبي يتنوّع بتنوّع العقوبة واختلافها، أم أن الأمر في ذلك يعود لاختيار الإمام أو نائبة، فإن شاء اختار القتل أو الصلب أو القطع أو النفي؟

وفي مقام الإجابة عن هذه التساؤلات نقول: هناك اتفاق بين المفسّرين والفقهاء من كلا الفريقين على أن عنوان المحاربة لله تعالى لا يعقل أن يكون على وجه الحقيقة، فلا يعقل لشخص أن يحارب الله تعالى حقيقة، إلّا بضرب من التصرف والمجازية، وذلك باعتبار المحاربة لما هو مرتبط به تعالى، كمحاربة أوليائه وإيذائهم، ومحاربة التعاليم الشرعية والواجبات الإلهية، فالمحارب هو الذي أعلن الحرب والقتال والوقوف بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله  وبوجه التعاليم والأحكام الإلهية ونحو ذلك.

ومع ذلك؛ لا يمكن حمل هذا المضمون على إطلاقه وشموله؛ لأن سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله  جرت على التفريق بين أصناف المحاربين في تطبيق الحكم المذكور في الآية الكريمة، ما يعني أن هذا الحكم مختصّ بصنف معيّن من المحاربين، ويحتمل أن يكون هذا الصنف هو مَنْ تتمثّل فيه أعلى درجات وصور المحاربة ونصب العداء للنبي صلى الله عليه وآله  وللإسلام، كما أن العنوان الآخر وهو عنوان المفسد في الأرض قد تمّ تطبيقه في معظم التفاسير على قطاع الطريق والمخلّين بالأمن العام والمعتدين على المارّة بالسلاح، ما يكشف عن أن الحكم الوارد في الآية الشريفة ليس مطلقاً وشاملاً لكل محارب أو مفسد.

وفي هذا المجال يذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره: بأنّ الآية تشير لحكم بعض المحاربين لله ورسوله، كمحاربة بعض الكفار للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وكذلك تشير الآية لحكم بعض المفسدين، وهم قطاع الطرق والمخلّين بأمن الناس عامة، ولا يمكن حمل الآية على مطلق المحاربين والمفسدين؛ لأنه خلاف سيرته صلى الله عليه وآله، حيث لم ينقل لنا التأريخ عنه صلى الله عليه وآله  أنه كان يعامل المحاربين والمفسدين بهذه العقوبة والجزاء عند الظفر بهم بصورة عامة، قال في معرض بحثه في الآية الكريمة: «وهو الإفساد في الأرض، بالإخلال بالأمن وقطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين، على أن الضرورة قاضية بأنّ النبي صلى الله عليه وآله  لم يعامل المحاربين من الكفار بعد الظهور عليهم والظفر بهم هذه المعاملة من القتل والصلب والمثلة والنفي»[39].

كما أنّ البحث قد انقسم من جهة أُخرى إلى قولين، وذلك بلحاظ أن اختلاف حكم المحارب أو المفسد في الآية الكريمة هل هو باختلاف نوع العقوبة؟ أم أن للإمام الخيار، إن شاء قتل أو صلب وإن شاء قطع أو نفى؟ جملة من الروايات الشريفة الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام  في المقام تشير إلى اختيار الإمام، وأن له الخيار المطلق في تحديد المصلحة في ذلك، وجملة أُخرى منها تشير إلى مسألة الترتيب في العقوبة على نوع الفعل ودرجات المحاربة والإفساد، وليس العقاب الوارد في الآية المباركة على إطلاقه، فليس مَن قتل وسرق كمن سرق فحسب! ما يدل على أنّ تلك العقوبات خاصّة بفئة معيّنة. أشار إلى ذلك كلّه العلامة الطباطبائي في تفسيره، وقال في ختام بحثه: «وتمام الكلام في الفقه، غير أنّ الآية لا تخلو عن إشعار الترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد؛ فإن الترديد بين القتل والصلب والقطع والنفي ـ وهي أُمور غير متعادلة ولا متوازنة، بل مختلفة من حيث الشدة والضعف ـ قرينة عقلية على ذلك»[40].

مضافاً إلى أنّ البحث الفقهي قد خص تطبيق هذه الأحكام والعقوبات الواردة في الآية الشريفة بمن له حق الولاية كالإمام المعصوم أو نائبه الخاص أو العام، وليس لكلّ أحد جواز تطبيقها.

ثم إنّ العقاب الوارد في حقّ المحارب والمفسد في الأرض لا يشمل الذين تابوا قبل أن يُظفر بهم ويُقبض عليهم؛ لتصريح الآية التي تليها بذلك، وأيضاً لا يصح تطبيق ذلك الحكم على الذين قُتلوا على أيدي المسلمين؛ لحرمة المثلة والتمثيل بهم[41]، كما أنّ للأسير أحكاماً أُخرى مختصّة به، فلو وقع بيد الإمام أو نائبه أسرى في الحرب اختلف حكمهم، ولا يصح ـ بل لا يجوز شرعاً ـ تطبيق تلك الأحكام والعقوبات الواردة في الآية الشريفة بحقّهم[42].

ويؤكّد المفسرون عموماً على هذه الحقيقة، وأنه لا يمكن الأخذ بمضمون الآية المباركة على إطلاقه، ومن هنا؛ وقع الخلاف بينهم في تحديد المعنى الخاص الذي قصدته الآية، يقول الطبري في تفسيره: «اختلفت أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في أهل الكتاب... وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين... وقال آخرون: نزلت في قوم من عرينة وعكل ارتدوا عن الإسلام وحاربوا الله ورسوله»، وفي ختام بحثه الطويل قال: «وأوْلى هذه الأقوال عندي بالصواب قول مَن قال: المحارب لله ورسوله من حارب في سابله المسلمين وذمتهم والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابه» [43]،  وهذا ما يؤكّد عدم الاتفاق على شمول الآية لكلّ المحاربين والمقاتلين للمسلمين بقول مطلق. وأصرح من ذلك ما ذكره الرازي في تفسيره، حيث يقول: «... إن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنه؛ فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله، والمحاربة مع الرسل ممكنه، فلفظة المحاربة إذا نُسبت إلى الله تعالى كان مجازاً؛ لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله، وإذا نُسبت إلى الرسول كانت حقيقة... ] إلى أن يقول: [والوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في قطّاع الطريق من المسلمين، وهذا قول أكثر الفقهاء... ] ثم قال في آخر البحث: [المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً، ويقصدون المسلمين في أوراحهم ودمائهم، وإنما اعتبرنا القوة والشوكة؛ لأن قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد»[44]. ويقول القرطبي أيضاً في تفسيره: «وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد»[45].

يضاف إلى ذلك كلّه: أن جمعاً من مفسري العامة ذهبوا إلى القول بنسخ هذه الآية الشريفة بآية السيف وضرب الرقاب[46]، ومؤدّى ذلك سقوط الحكم عندهم من الأساس؛ فلا يصحّ الاستدلال بها في المقام، ولو تمّ ذلك يكون من أهمّ الأجوبة وأثبتها. لكن السيد الخوئي أوضح في كتابه البيان مفصلاً بطلان القول بنسخ هذه الآية المباركة، فلاحظ[47].

والخلاصة: أن الحكم لا يشمل كل محارب أو مفسد، فالآية الكريمة لا تنفع أُولئك المجرمين في حملتهم الإجرامية التي طالت الأخضر واليابس.

الدليل الثاني: إطلاق بعض الآيات المباركة، حيث يظهر منها وجوب التنكيل بالكافرين وممارسة الشدة والعنف بحقهم بلا رحمة ولا شفقة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ  وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾[48]. وقوله تعالى: ﴿ وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾[49]. وقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚوَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ  وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ  فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ  كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾[50]. وغيرها من الآيات القرآنية التي تؤكد على ضرورة محاربة الكافرين وقتلهم وعدم الرأفة بهم.

وفي مقام الإجابة نقول: إن هذه المطلقات لو تمّ الاستدلال بها، فهي مقيدة بأدلة حرمة المثلة، ولا يصح تطبيق الآيات المباركة على ما يمارَس اليوم من سفك الدماء وقطع الرؤوس والمثلى بها وإهدائها؛ فإن مثل هذه الجرائم خارجة عن متعلّق ومضمون الآيات المذكورة.

ثمّ إنّ مدلول هذه الآيات الشـريفة وغيرها في مقام تشريع الجهاد الابتدائي أو الدفاعي مع المشركين والمعتدين، وهو إما في مقام الدفاع عن النفس والهويّة والوجود، أو هو كما في الجهاد الابتدائي تكون غايته نشر وإعلاء كلمة الاسلام؛ ولذا لا عدوان أو قتل بحق النساء والأطفال والشيوخ. قال العلامة الطباطبائي في الميزان: «القتال: محاولة الرجل قتل مَن يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنّما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يُقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم، فإنّما هو في الإسلام دفاع يُحفَظ به حق الإنسانية عند الفطرة السليمة... فإنّ الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد؛ ولذلك عقبه بقوله تعالى:﴿ وَلَا تَعْتَدُوا  إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾...»[51].

ويقول صاحب تفسير الأمثل: «فالحرب ليست للانتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كله مرفوض في نظر الإسلام، حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله، وفي سبيل نشر أحكام الإسلام، أي: نشـر الحق والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف»[52]. فليس المنهج في الإسلام هو القيام بالسيف والتحكّم في رقاب الناس بالقتل وسفك الدماء، كما أنّ جهاد الكفار والمشركين والمحاربين لإسلامنا الحنيف لا يمثّل أصلاً وأساساً أوّل في منظومة التعاليم الإسلاميّة، كما قد يصوّر ذلك بعض الجهلة والمغرضين، بل إنّ الإسلام دين الرحمة والرأفة والسلام، وأصله وأساسه الأوّل هو الدعوة إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن مع ذلك هناك طائفة من المعاندين والظالمين والمفسدين في الأرض لا يصح معهم إلّا الغلظة والشدّة والعقاب والتنكيل، وهو علاج وسبيل ثانوي اضطراري، لا يصحّ أن يُجعل هو الطريق والسبيل الأساس في الدين الحنيف وأهدافه السامية، يقول أمير المؤمنين عليه السلام  في معرض خطابه مع المجاهدين: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أُخرى لكم عليهم، فإذا  كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيّجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم...»[53].

الدليل الثالث: قد يُستدل على شرعيّة ممارسة جريمة قطع الرؤوس بتقرير النبي صلى الله عليه وآله وعدم معارضته لما فعله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام  في معركة بدر أو خيبر أو غيرهما، من قطع لرؤوس الأعداء،  بل وفي بعض القصص التاريخية أنّ الرسول صلى الله عليه وآله  كان يأمره بقطع أعناق بعض المشركين من المحاربين؛ مما يكشف عن صحة وشرعيّة هكذا أفعال، مضافاً إلى أنّ سيرة السلف الصالح بعد واقعة كربلاء قد جرت على ذلك[54].

وفي مقام الإجابة نقول: بغض النظر عن التأمل فيما يُنقل في هذا المجال، وقد ناقش البعض في تلك الحوادث مفصّلاً[55]، فإن هذه الحوادث إن صحّت فهي موارد قليلة ونادرة وفي ظروف خاصّة، ولا تشكّل سنّة يجب اتباعها، كما أنّها لم تكن مع المسلمين، بل كانت مع الكفار والمشركين واليهود والمنافقين، ولم ينقل لنا التاريخ وقوع المثلة بتلك الرؤوس، أو إهداءها وتناقلها من مكان لآخر، بل نقل لنا التاريخ أن علياً عليه السلام  قد أوصى ابنه الحسن أن يضرب قاتله ضربة بضربة، وأن لا يُمثِّل به، وحكى حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله  بحرمة المثلى ولو بالكلب العقور[56]. والنصوص المتضافرة عن النبي الأكرم صحيحة وصريحة في حرمة المثلة والتمثيل بالإنسان بشكل مطلق، لا يسع المجال لاستعراضها[57].

والتأمّل في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسيرة وصيه علي عليه السلام  وأبنائه المعصومين المطهّرين عليهم السلام ، يرسم لنا صورة واضحة عن الأخلاق النبيلة والمثل الإنسانيّة الرفيعة في مواجهة الأعداء، حيث خلت سيرتهم المباركة من كافّة أشكال الممارسات الإرهابيّة التي نراها تمارس اليوم بحقّ المخالفين في العقيدة والدين والمذهب.

وما قد نجده في بعض الموارد من مجازاة الكافر المحارب بقطع رأسه في الحرب، إنما كان يمثّل الطريقة والآلية المألوفة والمتبعة آنذاك في معاقبة الجاني والمعتدي الآثم، وليس هو إلا لتحقيق العدالة الإلهية في الأرض. ولا يصحّ أن يقارَن ذلك أبداً بجرائم بني أُمية في يوم عاشوراء، حينما سفكوا الدماء وقتلوا الأبرياء ومثَّلوا بأجسادهم ورؤوسهم الطاهرة وانتهكوا الحرمات.

وعلى الرغم من كل ما جرى، بقي النصر والخلود حليف الأتقياء، وبقيت كربلاء مناراً شامخاً لتخليد دماء الشهداء، وأُسوة حسنة لكل مجاهد حرّ شريف، وأما سفك دماء الأزكياء وقطع رؤوسهم وإهدائها وحملها في البلدان، فيبقى وصمة عار وخزي على جبين الطغاة والجبابرة كتبه التأريخ ولا يُمحى أبداً، ويبقى دليلاً حيّاً على جرائمهم الوحشيّة وحقدهم الدفين على محمد صلى الله عليه وآله  وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، وتبقى جريمة كربلاء لا تقارن بأيِّ جريمة أُخرى وقعت في التاريخ؛ إذ لابد من ملاحظة المقام السامي والرفيع لشخص المجني عليه، فليس للأُمة ابن بنت نبي آخر غير الحسين عليه السلام ، الذي لا يدانيه أحد في الفضل والعظمة والمنزلة الإلهيّة، وهذا ما لم يردع القوم ولم يصرفهم عن جريمتهم النكراء، ولم يتأثروا بخطاب أو وعظ أو معاجز إلهية وحوادث غير طبيعية وقعت في مثل ذلك اليوم وحفظها التاريخ، بل ازداد القوم طغيانا وكفراً، فكانوا يضربون الرأس الشريف كلّما شاهدوه يتلوا آيات من الذكر الحكيم، وبالرغم من كل ما شاهدوه من كسوف للشمس وخسوف للقمر ومطر السماء دماً وما رُفع حجر أو مدر إلا ورأوا تحته دماً عبيطاً، فإنهم لم يكتفوا بذلك ولا فكروا بالتوبة والإنابة، وإنما حملوا الرؤوس على الرماح وسبوا العيال ونهبوا الخيام وأحرقوها، ولولا خوف الملعون يزيد من الفتنة وانقلاب الأمر عليه بعد خطبة مولانا زين العابدين عليه السلام  المعروفة في بلاد الشام، لما أمر بإرجاع أهل بيت الوحي إلى المدينة، ولما رضخ للقبول بإرجاع الرؤوس معهم ودفنها في مستقر الأجساد الطاهرة، وذلك بعد مرور ما يقارب الأربعين يوماً من مقتلهم المأساوي. وما خفي قد يكون أعظم وأدهى، ومَن رأى ليس كمن سمع أو قرأ.

فسلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله يوم وُلِدت ويوم استُشهدت ويوم ترجع إلينا ويوم تُبعث حياً، والسلام على وُلدك وأهل بيتك وأصحابك وأنصارك، ولعن الله أعداءكم وظالميكم وقاتليكم إلى قيام يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

 

 الكاتب : الشيخ منتظر الإمارة

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[29] اُنظر: الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة: ج29، ص 128،  ح6: «إياكم والمثلى ولو بالكلب العقور...».

[30] النجفي، حسن، جواهر الكلام: ج21، ص78.

[31] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج6، ص241. وأيضاً: الخوئي، أبو القاسم، بحث القصاص الديات: ج42، ص162.

[32] اُنظر: المرعشي النجفي، كتاب القصاص على ضوء القرآن السنة: ج2، ص376. وأيضاً: المدني الكاشاني، كتاب القصاص: ص171.

[33] ويستفاد ذلك مما ورد في أغلب الكتب الفقهية في كتاب القصاص، ومنها ما ذكره: النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج42، ص341. المرعشي، القصاص على ضوء القران الكريم والسنّة: ج2، ص360. الخوئي، أبو القاسم، بحث القصاص والديات: ج42، ص162.

[34] المرتضى، الانتصار: ص542.

[35] اُنظر: الحلي، تحرير الأحكام: ج5، ص632. والفاضل الهندي، كشف اللثام. والنجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج43، ص384. والسبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام: ج29، ص 329.

[36] قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، في حديث:( أنه نهى عن المثلة): «يقال: مثّلت بالحيوان أو مثّل به مثلاً، إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثّلت بالقتيل إذا جدعت أنفه أو أُذنه أو مذاكيره، أو شيئاً من أطرافه...». ج4، ص294.

[37] فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام : «ويُنزل المطلوب عن الخفية بعد ثلاثة أيام ويُغسل ويُدفن، ولا يجوز صلبه أكثر من ثلاثة أيام». الكاشاني، الوافي: ج24، ص486. واُنظر: الخوئي، أبو القاسم، شرح العروة الوثقى(كتاب الطهارة): ج9، ص274. وهذا حكم الصلب خاص بالمحارب تطبيقاً للخيار الوارد في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ  ...﴾. المائدة، آية33. وسيأتي تفصيل البحث فيها لاحقاً.

[38] المائدة: آية33.

[39] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج5، ص326.

[40] المصدر السابق:  ص332.

[41] اُنظر: ابن إدريس، السرائر: ج3، ص505، وأيضاً: النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج41، ص566. وأيضاً: السبزواري، مهذب الأحكام: ج28، ص118. وقد أجاد الأنصاري في موسوعته الفقهية الميسرة فراجع: ج3، ص365.

[42] اُنظر: الأحمدي، علي، الأسير في الإسلام: ص135.

[43] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ج6، ص280ـ 287.

[44] الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير: ج11، ص215.

[45] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج6، ص149.

[46] اُنظر: ما تقدم من المصادر السابقة، وبالخصوص ما ورد في تفسير القرطبي: ج 6، ص150.

[47] اُنظر: الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن: ص36

[48] الفتح: آية 29.

[49] الأنفال: آية60.

[50] البقرة: آية191.

[51] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج2، ص61.

[52] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج2، ص19.

[53] خطب الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة: الكتب والرسائل، رقم14.

[54] اُنظر: أغلب الكتب التاريخية في هذا المجال: كالطبري والكامل وغيرهما، ولقد أجاد السيد مرتضى العاملي في كتابيه: الصحيح من سيرة الرسول الأعظم|: ج7 ص266 وما بعده. والصحيح من سيرة الإمام علي عليه السلام : في مطلع الكتاب الخامس منه وما بعده، بتوضيح ذلك مفصلاً فلاحظ. واُنظر أيضاً: الأحمدي، علي، الأسير في الإسلام: ص249.

[55] اُنظر: العاملي، مرتضى، الصحيح من سيرة الإمام علي عليه السلام : ج5، ص17. حيث ناقش في ثبوت كثير من تلك الحوادث.

[56] خطب الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة (تحقيق صبحي صالح): ص422.

[57] اُنظر: البيهقي، أحمد بن الحسن، السنن الكبرى: ج9، ص69ـ 70. البيهقي، أحمد بن الحسن، معرفة السنن والآثار: ج6، ص557. والطبراني، المعجم الأوسط: ج2، ص79 وج6، ص42.  والمعجم الكبير: ج12، ص307 وج18، ص157. وغيرها من المصادر.

 

gate.attachment