الرسول

رغم أن رحلته هذه التي يستعد لها كـ (رسول) لم تكن الأولى فقد بُعث قبلها عدة مرات لإداء رسالة ولكن إحساسه هذه المرة يختلف عن سابقاتها.., كان قلبه يحدثه بأن شيئاً مهماً سيحدث له يغير مجرى حياته إلى الأبد أو ربما سينقله من عالمه إلى عالم آخر قد لا يعود منه أبداً, ورغم أنه لم يكن يعرف ما هو هذا الشيء أو ما إذا كان في صالحه أم لا, إلا أن الخيار أيضاً لم يكن بيده في منع هذا (الشيء) من الحدوث فهو مأمور بإداء رسالة القيصر إلى ملك العرب.

وكلما اقترب موعد الرحلة ازداد تشوّقاً إلى اكتشاف هذا الهاجس الذي يخامره من هذه الرحلة, لقد سمع عن النبي الذي ظهر في جزيرة العرب، والذي دعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، كما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونبذ العصبية الجاهلية، وعدم التفريق بين الأسود والأبيض إلا بالتقوى، ونهاهم عن المعاصي والعدوان والظلم وأمرهم بالعدل والإحسان والتراحم بينهم، كما سمع عن تواضعه ومجالسته للفقراء والمساكين وأكله معهم وعطفه على الصغير ورحمته للشيخ العجوز وووو

أليست هذه أخلاق عيسى بن مريم ؟ أليس هذا ما جاء به المسيح ؟ ألم تكن حياته هكذا ؟

تساءل مع نفسه: إننا نعيب على اليهود أنهم لا يؤمنون بعيسى مع أنه عاش حياته مثل ما عاش موسى وجاء بمثل ما جاء به وبمثل ما جاء به النبيون من قبله, فلِمَ لا نؤمن بنبي عاش حياته كما عاشوا وجاء بمثل ما جاؤوا به ؟

كان تفكيره خلال الطريق منصبَّاً حول هذا النبي وكيف استطاع أن يوحِّد أمّة بدينه الذي ساد كثيراً من البلاد ؟

وظلت هذه الأمور تراوده توقف فجأة .. بقيَ هناك شيء واحد ..؟ شيء واحد يثبت له نبوة محمد نبي العرب .. المعجزة

لقد ألقى موسى عصاه على الأرض فتحولت إلى أفعى ولقفت أفاعي السحرة, وكان عيسى يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وكذلك بقية الأنبياء كانت لهم معاجز, لكنه لم يسمع عن معجزة لنبي العرب ؟

ربما كانت له معجزة أيضاً وإلا لما آمنت به العرب فهم أصحاب لغة وشعر ..

ولكنه لم يسمع بها وحتى إذا سمعها من المسلمين فلربما لن يصدقها خاصة إذا كان الراوي ربما أيضاً قد سمعها لأن نبيهم مات منذ خمسين سنة.

إذن فإن حدوث المعجزة في هذا الوقت محال, كما أن المسلمين بعدما انتصروا على المشركين وهم قلة، تنازعوا بعد ذلك فيما بينهم بعد موت نبيهم ولم يسيروا على منهجه في نشر الإسلام بالمحبة والسلام فغزوا البلاد، كما كانوا يغزون بعضهم البعض في الجاهلية فقتلوا وأسروا وأحرقوا ونهبوا

كان كمن يحاول أن يجد بصيصاً من الضوء وسط الضباب ..، يريد أن يدرك الحقيقة من هذه النبوة

لقد كان من أشراف الروم وعظمائهم الذين كانوا موضع ثقة واعتماد القيصر، كما كان ذا عقل كبير وإدراك للأمور ووعي وثقافة ويجيد لغة العرب، إضافة إلى شجاعته التي تجعله يقف أمام سطوة الملك ولا تثنيه عن قول الحق، وقد ورث هذه الصفات من أجداده فهو من أحفاد النبي داود (ع).

كان كلما اقترب من الوصول إلى قصده يزداد قلبه خفقاً وتلهّفاً حول الشيء المجهول الذي ينتظره، لقد أجهده التفكير فأسعفه النوم من هذا الجهد فنام قليلا ليستيقظ على صوت قلبه وهو يخفق بشدة وقد زاده حلمه على الإسراع في المضي نحو .. الـ.... لقد قالها نبي الإسلام .. نعم قال له في المنام:

ــ أنت من أهل الجنة !

لقد كان واثقاً من كلامه كل الثقة رغم أنه لم يكن مسلماً، أو لم يكن إلى الآن مسلماً فمن يعرف ما سيجري ؟

استقبله الخدم والحجاب في قصر ملك العرب فتعجب من البذخ والاسراف الذي بُني به القصر وما احتواه من الفراش والزينة وقارن بين ما سمعه عن نبيهم من التواضع والعيش البسيط، وبين ما يراه الآن في هذا القصر، هزّ برأسه وقال في نفسه:

لا بد أنهم انحرفوا كثيراً عن سيرة نبيهم والطريق الذي رسمه لهم ؟

فوجئ وهو يدخل على الملك وجود نساء وأطفال فانبهر بإشراق وجوههم رغم حالتهم المأساوية

كانوا مقيَّدين بالسلاسل وهم يبكون ... وفجأة تسمَّر في مكانه من المنظر الذي رآه !

رأى أمام الملك وعاء فيه رأس مقطوع وكان الملك يشرب الخمر

حدّق في الرأس فرأى فيه ملامح النبوة التي كان يقرأ عنها في كتبه

وفجأة شاهد امرأة لم ير مثلها في حياته، فرغم أنها كانت أسيرة إلا أنها وقفت أمام الملك موقفاً لا يقفه أفذاذ الرجال وتكلمت ببلاغة لا يمتلكها فصحاء العرب، وأفحمت الملك وجلساءه. أخذته الدهشة وهو يفكر: إذا كان البيت الذي يلد نساء بهذه العظمة فكيف يكون الرجال الذين يخرجون منه ؟

كان كل منظر ومشهد يراه ويسمعه في هذا المجلس يزيد من تلهّفه لكشف خباياه لكنه رسول وقد منعته حصافته من السؤال عما ليس من شأنه، ولكن لا بد من معرفة ما يجري، تجرّأ وسأل الملك:

ــ من أي الأسارى هؤلاء ؟

ــ امتعض الملك وكأنه كرِه منه هذا السؤال فقال له:

ــ إنهم سبايا الخوارج !

في تلك اللحظة تجمّد في مكانه وهو يسمع هذه الكلمات:

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) !!

نظر حوله فرأى أن الجميع كان صامتاً ولم يتكلم أحد !

كان الصوت منبعثاً من الرأس المقطوع !!

نظر إلى مصدر الصوت ووجم وهو يرى الرأس المقطوع لا زال يردد هذه الكلمات

أيمكن أن يكون هذا ؟!

كان يعرف أن الخوارج هم اللصوص وقطاع الطرق والخارجون عن القانون فكيف لله أن يجعل لهم كرامة منه فيمكّن رؤوسهم من الكلام بعد أن تُقطع!

أصرَّ على معرفة صاحب هذا الرأس فقال للملك:

ــ لمن هذا الرأس ؟

فزاد امتعاض الملك من هذا السؤال فقال وهو في حالة سكره:

ــ مَا لَكَ ولهذا الرأس ؟

لكنه كان يعرف كيف يستنطق هذا الملك الغبي المعتوه فقال:

ــ إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيتُه، فأحبَبتُ أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه، حتى يشاركك في الفرح والسرور.

فنظر الملك بزهو إلى الرسول وكأنه قد حقق انتصاراً فقال:

ــ هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب.

كان قلبه يضطرب عند سؤاله، ولما سمع اسم الحسين أحسّ أن قلبه انفطر .. فقال لكي يستوضح الأمر أكثر:

ــ ومن أمّه ؟

فقال الملك: فاطمة بنت رسول الله.

صعق وهو يسمع اسم رسول الله

رسول الله النبي الذي كان يقول لنفسه عنه أنه لم يسمع عنه معجزة وها هي المعجزة التي لا تكون إلا للأنبياء وأوصيائهم

إذن فهذا الرأس لابن بنت النبي وهذا الكلام منه من أكبر المعاجز بل وأية معجزة أكبر منها ! .. تعساً لهؤلاء القوم الذين يقتلون أولاد الأنبياء

لم يطق صبراً بعدما رأى، ولم يعد يملك القدرة على التحمّل أكثر من ذلك فصرخ بوجه الملك بغضب:

إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه في كل عام من الأقطار ونهدي إليه النذور ونعظمه، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله وما بينه وبين نبيكم إلا أمّ واحدة ؟!! فاشهد أنكم على باطل.

وجم الجميع لهذا الكلام وساد المجلس صمت رهيب

كانت هناك أسئلة كثيرة تدور في رؤوس الحاضرين ولكنهم لا يجرؤون على طرحها ..

ــ ما علاقة هذا الرومي النصراني برأس ابن بنت رسول الله نبي الإسلام ؟ وكيف تجرّأ بهذا القول أمام الملك ؟

حدّق الجميع بالملك ليروا ردّه على الرسول

لقد أطار كلام الرسول هذا أثر الخمر من رأس الملك الذي استشاط غضباً ووقف وهو يزمجر ويقول:

ــ اقتلوه ..

في تلك اللحظة رأى الجميع الرسول الرومي وهو يتقدم نحو الرأس فقبله، وقال ودموعه تنحدر على خديه:

ــ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً رسول الله 

وبعد قليل سمع جميع الحاضرين صوتاً من الرأس يقول:

(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ....

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار