إلى الشهيدة رنا العجيلي ..

 

 

لوهلة بدت الارض معلقة وأنا استجمع قواي واعيد ترتيب نفسي، أترقب المكان الذي فيه أنا وأولادي، تتشظى مرآتي وسمفونية الحياة الرتيبة وأعلق بثياب الحرب التي لم اتوقعها يوما, ربما سفري يطول أمي، بوحي كان ينقصه تفاصيلا كثيرة وكلمة سفر بلا أمكنة وبلا ازمنة.. حتى نومي ينقصه الكثير، الاحلام والامنيات في تلك الليلة وبقيت اتقلب يمينا" ويسارا" على مضجعي وأميل تارة واستعدل تارة بعد ان تركت اولادي ينامون في غرفة أمي ولأول مرة، نهضت وجمعت بطاقات التهنئة بعيد ميلاد اولادي ووضعتها بمجر الذكريات وقبل خروجي سمعت قرقعة بعد الاتصال الذي وردني من المصور بوصولهم الحي لاستجمع قواي واشتت الذاكرة وانسى الكثير لأبدأ  رحلتي.. تفاصيل رحلتك ينقصها الكثير، لباس الحرب!! الى اين؟

 

التفت ذراعاي حول رقبتها، قبلتها عشرات القبل وانا اضحك.. انا مع الحشود الماضية الى الارض المعلقة أمي، خلقك الله انثى لبيتك واولادك.. وولدتني الارض لأدافع عنها.. أنها أم الام ولا حياة بعدها.. حملت حقائبي الثلاثة بعد أن قبلت اولادي الاربعة ومع اول خطاي لتسلق الحافلة التقط المصور ضياء لي صورة تذكارية، استجمعت قواي بعد أن جلست على الكرسي بين عشرات الجنود الاوفياء للأرض والاغلب كانوا شبابا بمقتبل العمر، بدأ المسير وبدأت الاهازيج في ذلك الفجر، نسيت كل شيء ومسرعة الى الارض وكأننا في عرس كبير أجل أنها زفة الارض المعلقة الى احضان الوطن، حتى ونحن في اول وصولنا خط الصد ورغم الاطلاقات وقذائف الهاون المتجهة نحونا تستمر الاهازيج، نزلنا من الحافلة الواحد تلو الاخر نركض الى مركز القيادة لكن ضياء يحاول التقاط صور اكثر في ليل برده قارس حتى وصلنا وتجمعنا حول شعلة النار، التفت الى شيخين وصلا ليرحبان بي كانا يحملان سلاحهما.. تغير كل شئ بداخلي ولم اندم بلحظة على فراق اولادي، قبلت الارض

لنقاط تنتشر بجنود واليات واصوات الانفجارات والالغام تقتل من احبتنا كل يوم والحرب لا تطاق فعلا هذا ما شعرت به بعد ايام ليست بالقليلة والفراق وشوقي اليهم، أجل اولادي وأمي، لكني متمسكة بنقل انباء الانتصارات وزفة اشبار الارض المعلقة، وانقل ما بوسعي أن انقله من كعك وحلوى واطعمة من نساء نذرن انفسهن للأرض.. قساوة المنظر.. الجثث والدمار والكثير من الاعداء.. جنود صغار يفارقون اهاليهم بكل لحظة ورجال يقفون بشموخ رغم اعمارهم والاغلب من الناصرية والبصرة معي ومسافات الطريق الى هنا وفراق الاحبة. انظارنا المتقلبة ما بين سماء وارض والمتبادلة بيننا حين نخسر صديق ولكني اطلق الزغاريد الحزينة نبكي لفراقه ونفرح لأنه التحق بقوافل الماضين الى الجنة.. فكم ثكلى استنجدت، وكم من حرة نادت واستجاب له الشهيد الصغير.

 

الايام ترمي بي للعودة بعد مضي شهر على التحاقي كإعلامية حربية، نفضت بنطالي وعدلت سترتي.. حملت حقائبي وساعدني ضياء ولأول مرة لم يلتقط صورة لمغادرتي المكان، الحافلة يعلوها توابيت المحاربين الشهداء رحلة حزن من ارض معلقة إلى وطن يحاول من فيها التشبث بحياتهم من المحاربين دون جدوى.. لكني في اول نقطة للوصول اغادر كي لا ارى دموع الامهات ولا ارى ماذا تفعل الزوجات وهن يودعن اجمل اللحظات ويدخلن جلباب الحزن والفراق ولا اود ان اسمع صراخ طفلة – يا إلهي.. ضياء الا ترى كم من الالم ننتزع وكم من الالم يعصف بنا وكم من الالم يعيش بيننا ولحظات الحزن لا توصف في الحروب.. اقدارنا.. ربما او ربما!!!. شهداء ينعمون بعبق الفردوس يا صديقتي.. اول رحلة اعلامية تركتني اعلق بالأرض واحب ان يزفني الجميع مع اشبارها العائدة الى حضن وطن. وصلت اول نقطة وغادرت الحافلة وانا عاجزة ان اعيد ترتيب اوراقي وعاجزة أن اعود اماً، ركضت الى بيتي واستنشقت اولادي وامي وبكيت وكأنها المرة الاولى والاخيرة ووداع بعد لقاء!!!

 

منى الحسين