يسرح سيد مالك في ظلام هذا الليل الموحش بأفكاره وخيالاته نحو عاشوراء وهو في نقطة الرصد ضمن مناوبته في الحراسة الليلية.. يلمح نيران تتصاعد ودخان.. خيام تتآكل.. صراخ أطفال وأنين ثكالى ينطلق في الفضاء مفجعاً.. نساء تتعثر بأذيال العباءات.. الرعب ينتشر مع انتشار خيول امتطاها وحوش بشرية يقبضون بأيديهم مشاعل النار.. يضرمون بها حواشي خيام المعسكر... تتقافز الرؤى كشريط  سينمائي أمام عينيه بكل ما تحمله تلك الصور الموجعة من مآسي الطف.. اطفال ونساء سبابا تحت سياط الأعداء.. جياع وظماء مشردون عن الأوطان تسوق بهم الأعادي من قطر الى قطر في قفار الصحارى القاحلة.

تساءل في نفسه:  

ما أشبه مصائب اليوم بالأمس!

تجسّدت الآلام بأيتام وأرامل يملؤون عراق الحسين.. صاروا شغله الشاغل كي يزرع البسمة على شفاههم أو ينشر الأمان في قلوبهم.. دفعه حبه لهم وشفقته عليهم إلى افتتاح مؤسسة الزهراء الخيرية ليجمعهم بها.. فكّر مليّاً بهؤلاء الصغار وكيف سيكون حالهم إن هو استجاب لنداء الشهادة وسافر سفره الأخير عن هذه الحياة..  كيف سيكون حالهم بسماع النبأ؟ وهم ينتظرون من كان يتابع تحركاتهم وسكناتهم ويلبي متطلباتهم، فلم يكن لديهم علم بسبب تأخره عن المجيء للمؤسسة... فهم اعتادوا أن يركنوا إلى جناح حنانه وعطفه ركون الكتاكيت الصغيرة لحضن الدجاجة الأم!.

عليه أن يركز على عمله ضمن أكاديمية فرقة العباس القتالية التي ساهم بتشكيلها منذ اللحظات الأولى لانطلاقة الفتوى المباركة، ليكون بذلك أحد أبرز قادتها لما يتمتع به من إدراك أمني عال.. وشجاعة.

قال هذا مع نفسه

قرر مع ذاته ما إن تبدأ إجازته حتى يعود للمؤسسة ليحكي وينقش على قلوب رعاياها الصغار دروس الأحرار.. ولكي يروي شوقه اليهم.. يتخيل استقبال الصغار له.. يركضون نحوه، يطوّقونه بالضحكات البريئة والصيحات المعبرة عن الفرح والسرور، فهم يرونه طيفاً ملائكياً مشرقاً.. بعد أن يحتضنهم يكرمهم يسألهم.. صغاري إذا دخل شخص غريب إلى بيتكم واستولى على غرفةٍ منها فما تصنعون؟

علي: سأطرده من بيتي ولن أسمح له أن يأخذ شبراً منه.

تقى: سأتعاون مع إخوتي ونرميه خارج بيتنا.

فيجيبهم:

ــ أحبائي جميع إجاباتكم صحيحة وهذا ما سأقوم به.. سامحوني ذهبت لأطرد غرباء مجرمين اقتحموا بيتنا الكبير - العراق - وسأعود للدفاع عن المقدسات ومن أجل كل طفل مضطهد، وأمٍ مظلومة، وشاب يتطلع لمستقبل ناجح.. نعم أنا وأخوتي بحول الله سنعيد الكرامة إلى الوطن الحبيب ولا نسمح بأن يكون نهباً للغرباء.. صغاري سأرعاكم دوما ولن أفارقكم لحظة.. وتأكدوا إن السعادة سأستشعرها بنجاحكم.. وسأبتهج كلما شاركتم بالشعائر الحسينية.

يلوح الفجر طابعاً أول خطوطه على صفحات الأفق.. في اليوم الخامس للالتحاق بعمليه لبيك يا حسين لتحرير سيد غريب ينهض سيد مالك من فراشٍ لم يجمعه مع النوم إذ قضى ليله يعد ساعاته بشوق لفجرِ الخلود، فالشهادة قد تراءت له بغفوةِ غسق.. تنتزع خيوط الشمس من يديه رسالة يضعها في الجيب الأيسر لبزته العسكرية.. يغلق عينيه مستشعراً ذكرى انتهاء أيام الانتظار الطويلة لأخيه الشهيد سيد مهدي الذي اُعدم منذ (21) عاماً من قبل الظُلام الذين انتسبوا للدين وهو منهم بُراء.. خط في رسالته:

(أخي مهدي كلما اشتقت لرؤية أفق الحرية والكرامة تذكرت أنفاسك الثائرة.. أسافر بأفكاري إليك باحثاً عنك.. مستشعراً خفقات قلبك.. كنت معي دوماً حين استوقد مصابيحَ الأمل لتبدِّد الظلمة من قلوب الأيتام.. حينما أرعى شؤونهم وأتابع احتياجاتهم.. نعم.. أجدك عند كل فكرة صالحة فكرت فيها لأجل الدين، فأجدك مبتسماً سعيداً كسعادة مجاهد ربح الجولة الأولى التي تتبعها جولات للنصر.. كانت تنعكس روحك إشراقةً على روحي كلما توجّهت صباحاً كالمعتاد للخدمة المقدسة عند مولاي أبي الفضل العباس عليه السلام..

أخي.. سأبرز كقربان شهادة لشمس العراق، التي تأبى إلا أن تزيح الضباب لتملأ الدنيا بالورد والزيتون.. شمس لا تعرف أشعتها الخنوع لأي خبيث مستأصلة فيه روح العداء لأميرنا علي.. هذه الشمس ذاتها رمقتنا بطرف أشعتها ونحن مقتحمين جرف الصخر.. قبلت جباهنا.. مسدت فوق رؤوسنا كأم حنون، وظلّت مشرقة على جرف النصر.. رسالتي كتبتها بمرارةٍ في فمي أتطلع فيها أن تخبرني بأني سأقوى على الثبات.. أتمكن من التمسك بطريق الشهادة.

نعم الزمن سيمر وسيأتي بعدنا من يعرف لِمَ استشهدنا.. أجل سينسون وجوهنا وأصواتنا لكنهم لا ينسون تضحياتنا ما إن تطأ أقدامهم أعتاب المقدسات..

ادعو لي أن التحق بك سريعاً أخي العزيز..

أخوك السيد مالك الموسوي

 من قضاء بلد مدخل سيد غريب).

بعد أن دقت الساعة أجراسها منذرة بقرب الالتحام مع الدواعش، خرجت فرقة العباس القتالية، لتنفيذ عملية سيد الماء، فهاهم جميعاً ينطلقون بقلب ينبض بجسد واحد لرغبتين إما النصر أو الشهادة.. تنفذ العملية تنفيذاً أسطورياً أدهش الوحوش، تشتد الاشتباكات، وتتصاعد النيران، فالأرض مزروعة بالمفخخات والسماء ملبّدة بالنيران، ورفاق مالك يطلبون منه أن يُحني رأسه:

- سيد اخفض رأسك لا يصيبك القناص.

- سيبقى رأسي مرفوعاً حتى نيل الشهادة.

ازداد الاشتباك ضراوة، ولم يثني ذلك سيد مالك عن رغبة الشهادة، بزغت بشائر النصر من موضع النور في جبهته...يتقدم مقتحماً ويزأر صارخا (لبيك يا حسين).بينما وابل رصاص القناصين يترصّد زحف المقاتلين.. تخترق إحداها الرسالة التي تحمل قلب صاحبها الممزّق لتوصله كبرقيةٍ للكرامةِ الأبدية. فلا تزال هذه الكرامة تنبض بالمفاجآت.. كرامه أصرّت أن تنبعث من قلوب أبناء العراق فتتجذر لتمسك أرضه.. فثأر الكرامة يتوهّج في قلوب رفاقه لينبض عن مفاجأة توسّمت باسم (مالك الشهاب الثاقب) مفاجأة هزّت قلوب الأرجاس وأرعبتها، مفاجأة أعادت سيد غريب وبشير وبلد إلى أحضان العراق.

 

 رباب حسن / مركز الحوراء زينب عليها السلام