كالخاليات من أيامنا كان يومنا، ترجمان لآيٍ من الذكر الحكيم (( وتعاونوا على البرّ والتقوى )) .. فتُسارع سريّة قتالية الى خيرات الجهاد ؛ وتعود أخرى الى مقرّها متزودةً القوة لواجبها اللاحق .

تم ذلك وكان علينا الرجوع من (بيجي) الى أهلينا ومحافظاتنا ؛ لكن الوقت قد تأخر ؛ فقررنا اتخاذ ليلنا لباساً ؛ ونسافر مصبحين إن شاء الله .

لم نُلبس كل الليل إذ بقينا مع قائد السريّة (عابس) بسمر ليل جهادي ، نناغي نسائم هواء الميادين بضحكاتنا، فيرتشف النسيم منها شذى ؛ ليزيل عن ذراته روائح البارود ويتطهّر به من أنفاس العدو .

كان القائد ( عابس ) أكثرنا ضحكاً، اختتم ضحكته بقوله : " لأول مرة أضحك هكذا، اللهم اجعلها ضحكة خير" .. أطبقنا أجفاننا نائمين لنستيقظ على صوتٍ مدو، فيه دوي حقد وخسارة .. إنه الغدر مجدداً ، إنها الذلة التي ترهقهم .. يولون أدبارهم ويخشون مباشرة المواجهة .. حان موعد الرحيل الى رغد الوالدين ، الزوجة ، الأولاد .. لكنّا حثثنا الخطى مسرعين الى ( المشجب ) ؛ لتنتصر النفس بجهادها الأكبر .

اتجهنا الى أخوة لنا في جهة أخرى من ( بيجي ) لإمدادهم وتعزيزهم ؛ فقد كان الهجوم قوياً وسقط ، بل ارتفع كثير منهم شهداء .. بعد تعاوننا على البر ؛ نالوا البر الذي ما فوقه بر كما يقول رسول الله .. القتل في سبيل الله .

كُنا نتجه بإتجاهات مختلفة لمساعدة بقية صنوف الحشد ، تتباين أسماءنا فقط وتتساوى أهدافنا وقلوبنا ، إننا أشداء على الكفّار، رحماء بيننا .. لا يفصلنا الكثير عن نقطة حوصر فيها بعض المجاهدين ، فقال القائد ( عابس ) :

ـــ       " إما أن نموت جميعنا أو نُخرِج أخوتنا المُحاصرين" !

واصلنا التقدّم ولم يبقَ إلا دار واحدة لنصل إليهم ، وإذا بنا نسمع أنكر الأصوات :

ـــ       " أتيناكم يا روافض " .

لنردّ بصوت يرجم كل شيطان مارد :

ـــ       " لبّيك يا حسين ".

بدأت قنابل الهاون تتساقط كالمطر على نقطتنا، وعلمنا أن العدو في كل الجهات، حتى بدأ الأصحاب بنيل أوسمة الإصابة .. حاولنا إيجاد ثغرة لنقل الجرحى .

لم يهدأ أزيز الرصاص من بندقية ( عابس ) ؛ ليؤمّن لنا المكان ونصنع ثغرة ، وصنعناها .

كان آخرنا، خرجنا واطمأن علينا ثم خرج .. نقلنا الجرحى في السيارات وذهبوا ، وبقينا ثلاثة رابعنا ( عابس ) .. ومجدداً أدى دور الدرع والأب الذي إن خانته الماديات وتقطعت به سُبل المسببات يقتطف من عمره وروحه ومهجته في سبيل راحة أولاده ؛ فيؤمّن ( عابس ) الطريق لنشق دربنا ويبقى آخرنا .. تتجدد شجاعته ويجددون ضعفهم لتأتيه رصاصة في لب قلبه .

سقط أرضاً ؛ وارتفع شهيداً مع ارتفاع الشمس ؛ لتؤذِن ببدأ ليل معتم .

والآن .. يا ( عابس ) ؛ أ فككت لغز الضحكة التي اخترقت حجب الدنيا ؛ وأبصرت سنا الآخرة الأبقى ؟

قد استجيب دعاؤك فكانت ضحكة خير، و وجهك من ( وُجوهٌ يَومَئِذٍ مُسفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُستَبشِرَةٌ ) .

 

زهراء حسام الشهربلي