نظر بعينين فارغتين لما حوله لكأنما لم يجد ما يأسر قلبه أو يشده لشغف فتنةٍ ما حتى مع وجوه أحبته المنقوشة بحنينها على أروقة روحه .

لم أفهم حينها ملامح وجهه المبطنة بخطوطه المتعبة تلك، فهناك على سفح الجبل وحلكة ليله وبينما كنا نهتف بحناجر النصر المغموسة بزهو الفوز، غادرنا مبتعداً بخطوات مثقلة، مبتعداً عن ضجة الأصوات كان كما العطر الذي ملأ أنفاسنا بأريجه ثم تلاشى مع ذرات الهواء، وفي غمرة ذلك الزهو وتهدل الأكتاف المثقلة بذخيرة الواجب لم تنتبه له إلا أحداقي التي لحقتهُ إلى خلوته بالجهة المقابلة حيث أشعل ناراً وجلس يلقى بعض همومه على شُعَلِها، ويحركها بعصاه يمينا وشمالاً ليلهب السكون الذي حل ضيفاً خفيفاً على أرض مكحول بعد فورات عديدة فجرت مكائد العدو في المباغتة والغدر .. ستائر الظلام قررت أن تغفو على وسائدها المتعبة بعد سفرها الطويل المنهك، وكذا نجوم البسالة نزلت تغمض عينيها في جفون الأرض ما خلا قائداً صاغته حمم أرضه  ليعيش صلباً فذاً كما من صنعه .

أنا وهو فقط  بقينا على قيد اليقظة ، بين شهيق وزفير أنفاسه صرت أقرأ أوجاعه المطلسمة لعلي أجمع شتات حروف شفتيه المبعثرة تحت طيات الصمت، لم أره بتلك الحالة من قبل، كان قبل برهة وفي خضم الدماء التي تشبعت أنفاس الموت برائحة قتلاها فرِحاً يهتف مع الأصوات، لينتهيَ من معركة أخرى للموت ونجلس متأهبين في أحضان السكون الذي يسبق عاصفة أخرى اعتادت تعاريج هذه الأرض جنونها، فيلح عليَ السؤال مرة أخرى ما به ؟! لم هو كظيم هل سئم القتال أم لعل الخوف عرف مسلكاً لأوردته فدس له فيها جرعة من الجزع أم إنه اشتياقه لأهلهِ وطفلته الصغيرة ، بدأت الأفكار تدور وتتداخل دون أن استشف كلمةً تثبت أحداها وتنقض الأخريات ، وقبل أن تنساب التساؤلات الكثيرة إلى شفتي، حسمت الموقف ورحتُ أواسيه وأصبره فالنصر قريباً إن شاء الله وها نحن حررنا بعض المدن المغتصبة وعاد أهلها سالمين إلى ديارهم ، ورفعنا في أعالي السماء علم العراق وراية الإمام الحسين (عليه السلام) لتكون شوكة بعين العدو ورمزاً لفتوحاتنا

و..و..و..

بقيت أتكلم ولا يعيرني اهتماماً إلا ابتسامة غريبة تسللت بين زوايا شفتيه عبثاً، لم افهمها .. لم تكن استهزاءً بالتأكيد بالتولا ولا فرحاً، وإنما ابتسامة حملت معاني غامضة كملامح وجهه المنحوت بالغرابة، مع ذلك لم أصمت بل أردفت قائلاً : إذا أحببت فأطلب من آمر اللواء إجازة طويلة لتريح بدنك وتسعد برؤية ضحكات طفلتك .

هنا فقط توقفت عصاه عن العبث بالنيران التي سئمت جزعه، ونظر اليَّ كما الغاضب حيث هربت الابتسامة الغريبة من على شفتيه بعجالة، وقال بنبرة عالية لم آلفها منه أو تظنني أروم الهروب ؟؟!! .

أجبته : كلا يا صديقي أنا لم انطق بتلك الكلمة ولم أفكر بها مطلقاً فأنا أعرفكَ جيداً ولم أعهدك متخاذلاً ولا كسلاً عن أداء واجبك لكنني أردت أن... قطع كلماتي المعتذرة بقوله: اسمعني يا أمين إن كنت تريد أن تصنع لي معروفاً بربك أدعوا لي بالشهادة . توسعت عيناي بدهشة قرأها مجيباً نعم يا أمين هذا ما يقض مضجعي .. (الشهادة) وليس الأهل والخوف كما تظن، ليس سوى أني أحن لحبيبي الأوحد واشتقت قربه ففي كل معركة أخرج مؤتزراً بزة الشرف متطهراً بالوضوء وبكل الآيات القرآنية داعياً في سري أن تكون تلك هي معركة الفوز الأكبر .

ثم رفع رأسه ويده إلى السماء شاخصاً بكل جوارحه يناجي ربه " حبيبي قد طال النوى وقتلني الجوى  ألا من وصال "  بكيت لبكائه وما أصعب أن يبكي الرجال .

مرت ساعة بين الصمت والبكاء حتى قال أو تعلم يا صاحبي، الموت نوعان مادي ورمزي، أما المادي فكلنا راكبون في أكفان الغيب، لكن الرمزي هو للأبطال فقط، يختص بقلةٍ قليلة من البشر ممن يُذكر أنهم ماتوا وخرجت قلوبهم وأرواحهم من أجسادهم إلا أنه في الحقيقة إِشعارٌ بالحياة .. حياةٍ أخرى ارتحلوا ثاوين إليها هي أقرب للفردوس من غيره، ثم أطرق ببصره إلى اللانهاية وكأنه يرى ما لا طاقة بي على رؤيته حتى أحسست أنه سيفارق الحياة لشدة شوقه وحزنه .

أشرقت الأرض بنور ربها و(محمد) لا يزال على جلسته تلك لم يتفوه بكلمة وأنا أيضاً قتل حروفي كلها بأمانيه ولم يعد هناك ما يمكن قوله، حتى دقت ساعات الواجب ونهضنا معاً للتهيؤ للموت، جَهَزنا ووقفنا بكامل عدتنا العسكرية وقبل خروجنا ودعني وقلدني الدعاء بأن تكون تلك معركة الحسم ويوم اللقاء دعوت له وكنت أشعر في قرارة نفسي أن لحظات الشهادة بدأت تدنو إليه .

ثم خرجنا لتلبية الواجب ورياح الإطلاقات الهوجاء تعصف بنا، وتحت الهتافات التي تتسابق قبل المدافع (الله أكبر .. لبيك يا حسين) كنت أراقبه وأحمي ظهره من غدر الأعداء، إلا أنه أصيب لا محالة كيف لا وهو يتصدر الساتر الأمامي ليكون درعاً لأقرانه، فتلقى الإصابة تلو الأخرى إلى أن صعد أخيراً إلى حبيبه الذي نفد صبر شوقه إليه .

 

نغم المسلماني / مركز الحوراء عليها السلام