كنت أتهيأ للخروج من مجلس عزاءٍ لأحد أقاربنا حينما استوقفتني أحدى قريباتي لتسألني.

- ألستِ مهتمة بتوثيق قصص الشهداء؟

- بالتأكيد!

- حسناً.. لا تفوتي فرصة لقاء أم سامر؛ أظنك ستذهلين من كلامها عن أبنها الشهيد!.

سرحت حينها لدقائق لأرتب أفكاري، وأستحضر همتي للحوار مع والدة شهيد.

في الحقيقة لم تمض حواراتي السابقة بسهولة؛ فاستنطاق الوجع أمر ليس بالهين!تقدمت بارتباك، فربما لن ترحب بالحديث معي أو أن جرح الفقد مازال عميقا لدرجة عجزها عن البوح أو ........!!

 قَطَعت تساؤلاتي الصامتة بجملة ملؤها الفخر والألم

- أنا أم سامر؛ قالوا لي أنك تريدين الكتابة عنه!

- نعم لو تفضلت عليّ بالسماح أن أكتب عنه ؟

- ومن غير سامر يستحق أن يُكتب عنه ؟

قالت تلك الجملة بعدما أنفجر زمزم دمعها وأجهشت بالبكاء وفي صدرها تتكسر حسرة . لا أعرف بمَ كنت أفكر لحظتها حينما طلبت منها ذلك بقولي:

- أرجوكِ كفي عن البكاء لأفهم منك جيدا؟ صوتك قد لا يكون واضحا في التسجيل!.

نظرتها لي لحظتها جعلتني أدور معها في دوامة الحزن ذاتها .. لأصرخ في ذاتي بصمت " تباً لقسوتي وكأني أطلب منها أن تعدل جلستها بطلبي الأحمق, كيف ودموعها تلك كانت تنهمر بانسياب من عينين أم لم تصالح الصبر بعد! تداركت قولي بعدما سمعتها تئد عبارتها لتبدأ كلامها:

- سامر كان ........!!

- عفوا ... لا تحبسي دمعتك ؛ لكِ أن تبكي وتصرخي سأسمعكِ في جميع الأحوال أردتكِ أن تهدئي من أجل سامر فقط .. سامحيني.

كفكفت دموعها بطرف حجابها.. ورحمتني بشبه ابتسامة، لعلها أرادت أن تقول لي ما منعها الخجل عنه " سأكف من أجل سامر.. لا من أجل التسجيل! "

- سامر عطا نديم العبودي ولدي؛ مواليد 1989محافظة واسط.... في الفترة التي هبَّ فيها بعض الشباب لنصرة وحماية مرقد السيدة زينب عليها السلام كان سامر من بينهم، لكنه تراجع قبل التحاقه بفترة قصيرة فجأة لسبب ظننته وقتها أنه من أجل عدم قدرته على فراقي وفراق أبيه وأخوته، لكني كنت مخطئة بظني . ففي يوم انبثاق الفتوى عاد سامر للبيت مستبشرا وكأن ثمة رحمة من السماء نزلت عليه وقال في وسط البيت: وأخيرا أعلن المرجع ما كنت أنتظره سألتحق في صفوف الحشد الشعبي.

وقتها أعتصر قلبي بكلامه، وأردت منه فقط أن يتريث بقراره، لأني قبل أن أنطق بكلمة قال: " في إعلان الفتوى ذكرت المرجعية أن على الأم أن تحث ولدها، والزوجة تساند زوجها، والحمد لله أنتِ ملتزمة بتقليد المرجعية، وسيدة مؤمنة.. يعني حتماً لن تمنعينني ".

وفعلا لم أمنعه خصوصاً بعد أن أوهمني بأن التحاقه من أجل التدريب في الصويرة، وصدقته لأني لا أريد أن أصدق غير ذلك كاكتشافي لاحقا أنه ألتحق فورا للسواتر بإصرار منه، ورغبة جامحة للقتال في أشد المناطق سخونة " بيجي ".

كنت أعتمد على اتصالاته التي لم يقطعها .. بل لم أقطعها أنا.. ليطمئن عليه قلبي، ويسمح لي بالنوم بعد ليال مضنية من السهر والقلق.

ثلاثة شهور تقريباً وأنا أحلم بعودته كل لحظة, كل يوم كنت اسأله " لماذا لا تأخذ اجازة ولو ليوم واحد .. أضمك فيه ليلة كاملة، وعد بعدها ؛ هذا التحاقك الأول وغبت كل هذا الوقت؟ ماذا ستفعل بي في المرة الثانية؟! ".

ربما أشفق عليّ بعبارته حينما قال: " ما عدت أحتمل شوقي لكم سأعود غدا ".

لو تتخيلي ماذا أعددت له من طعام!, وكيف هيأت البيت ؟ وكم كنت سعيدة وأنا أرى الوقت يمضي وتقترب عودته ... ولو أن الوقت لم يمضِ!.

كثرة الاتصالات الغريبة من الأقارب لم تكن سبب جزعي؛ قبل ذلك كنت قد شعرت بحرارة في صدري، ولجأت للصلاة عسى أن تخمد جذوة الخوف داخلي، لكن بآخر اتصال عرفت أن سامر أصيب،  والساعات التي كنت أنتظرها لتبلغني رجوعه صارت محض عذاب.

خرجت إلى بغداد على أمل أن تكون أصابته ليست خطيرة، وكنت أفكر بالآيات  والأذكار التي سأتلوها على رأسه.. لتساعده بالشفاء سريعا ... آه ذلك اليوم لم أرَ بسواده يوما، وكأني فقدت البصر ... لا .. أغمضت عيناي فقط، لأحبس صورته داخلها حتى أراه .

وصلت للمطار حيث كان سامر، لكنه لم يكن هناك كما توقعت . فقط جسده كان هناك أما روحه..صوته.. وأنفاسه؟ غادرتني .

كذب علي كذبته الأولى والأخيرة لم يكن يتدرب.. بل يقاتل، وغدر به عدوه حينما رشقوه وزملاءه برصاص خساراتهم الفادحة بالمواجهات، وتربصوا بالسيارات التي تقل الأبطال إلى بيوت قلوب أمهاتهم.. ليغدروا بهم ويفجعوا تلك البيوت بإخماد نبضها.

سامر كان نائماً ... آه كم تمنيت لو كان نائماً ؛ لا أثر في جسده يدل على أصابته فقط ندبة في جبهته نفذت من خلالها الرصاصة واستقرت في قلبي جمرتها .

 

إيمان كاظم الحجيمي