رفع الحاج السبعيني عبد الرحمن ؛ الأذان لصلاة الظهر بصوت متهدج ونَفَسِ متقطع من على بناية المدرسة التي اتخذناها مقراً لآمرية اللواء قرب تلك القرية النائمة على ضفاف نهرها الصغير ، بعد ان اعتلت رابية الرصد راية الوطن وعلم الفوج المطرز بخارطة العراق .

كان الحاج عبد الرحمن موظف خدمة في دائرتنا الهندسية قبل ان نلبي معا نداء المرجعية ، حيث اعتاد على تقديم الشاي وخدمة الموظفين رغم كبر سنه ، ولكنه أبى إلا ان يلتحق معنا بالحشد مؤنقا ببدلته المرقطة كعريس يزف لعروسه , والشيب الوقور فيه يبعث فينا الحماس ويشد ازرنا  .

          انتظمنا بطابور أفقي مسطرين خلف إمام مسجد القرية الشيخ حسين الذي هب معنا ممتثلاً لصولة الحق وفتواها المباركة وتقدم الصف إمام بعد أن اعتمر عمامته البيضاء على البدلة المرقطة ، ورحنا نسوي الصف ليلامس كتفي بذلك كتف زميلي المهندس سفيان ، وبعد ان انهينا الصلاة جماعة ؛ رحنا نصافح بعضنا بتحية السلام .

تقدم آمر السرية وراح يشرح ما حدث قبل سويعة ، موضحا بـ " أن العدو قد استهدف القرية المجاورة بعدما خُطف واعدم خمسة شباب منهم بجريمة متابعة مباريات كأس العالم ، كما أنهم هدموا تكية الدراويش فيها بحجة أن الدراويش "منافقين" ، وقد استفادوا من أشجار النخيل المكتظة لإسقاط القرية بعد ان مهدوا لهجومهم هذا بقصف وحشي وسيارات مفخخة وانتحاريين بأحزمة ناسفة ، مما دفع بالأبرياء للهروب مذعورين ، لذا فعلى فرسان سرية الاقتحام التقدم صوب القرية المنكوبة لوقف الهجوم ، وعلى فصيل الإنقاذ المباشرة بإنقاذ العوائل "  .

تراكض مقاتلو سرية الاقتحام صوب أسلحتهم وهمّوا بتغطية اجسادهم بسعف النخيل للاختفاء وانطلقوا اتجاه القرية ، بعد ان اعتلى قناصتنا قلوب النخيل لمشاغلة العدو ، في حين تمترس بقية المقاتلين خلف السواتر ملتحفين باللاشيء في مقارعة موجات البرد القارصة التي كانت تصفع وجوههم ، وراح المقاتلون يشدون على مخازن البنادق ويملئوها بالعتاد استعداداً للمفاجآت .

أفاعين الدخان ما زالت تنطلق كالسهام الى كبد سماء القرية الملبدة بالغيوم ، وطرقعات السقوف المتهاوية تنفث الغبار نفثاً ، وخشخشة الألواح المتساقطة تزداد كلما أمعن العدو في قصفه ، لتقتلع منارة المسجد بفعل قذيفة حاقدة .

ثلة من فتية يتسارعون لنجدة الضعفاء وإسعاف الجرحى ، فهنا شاب يحمل على ظهره امرأة مسنة ، وهنا عجوز يجر جثته بثقل ، وهناك عوائل تتدافع على مخارج القرية وهي تحمل المتيسر من حقائبها ، والمركبات الصغيرة أخذت دور سيارات الإسعاف ، ومنبه إحداها يشق المتدافعين لإيصال فتاة بترت ساقها .

          انطلقنا ـــ نحن فصيل الإنقاذ ـــ وولجنا شوارع القرية التي تفاقم القصف عليها من أوغاد داعش وأضحت قذائفه تعوي في كل زقاق منه متداخلة مع هزيم الرعد .

صاح آمر الفصيل : " انجدوني ... انجدوني " ، ليغمى عليه من النزيف فاقدا ذراعه ، فهرولت بقية مجموعة الإنقاذ لإخلائه لوحدة الميدان الطبية .

هوت خلفي قذيفة هائلة ، أسدل دويها الستار عن سمعي ، فرميت بنفسي على الأرض الموحلة لتفادي شظاياها, ورحت ازحف ببرك الماء المتجمع نحو احد البيوت الطينية القريبة ، اعتصرني منظر أصحاب الدار وقد تناثرت جثثهم في أرجاء البيت بفعل قذيفة إخترقت السقف ، ورُشّت بذلك صحون الطعام بدماء أهله الممتزجة بقطرات المطر النافذة من الفتحة التي خلفتها القذيفة ، صورهم المتدلية على جدران البيت تضم وجوهاً باسمة وحركات عابثة لصبيانهم ... ها هم جثث هامدة !!! .

توثبت هواجسي وتدفق الدم فائراً في عروقي عندما سمعت صراخ طفل في الغرفة المجاورة ، اندفعت بلا وعي فرأيت طفل صغير يحبو حول أمه الصريعة وخيوط الدم منسابة على رقبتها منحدرة على صدرها حيث شُج رأسها بشظية ظالمة .

رفعتُ الطفل بحنو فسكت برهة عندما عانقت عيناه وجهي وكأنه يستنجد ، تذكرت طفلتي الوحيدة " فاطمة " عندما ضممتها الى صدري مودعا ؛ بعد انتهاء إجازتي وهي تعبث ببيريتي العسكرية .

قذيفة أخرى تهز أركان البيت وتدفعني لضم الطفل الى صدري بقوة ، محاولا التهدئة من روعه بسقيا ماء ، وإذا بشظية قد خرمت الزمزمية وأراقت الماء منها ، فاندفعت بالطفل خارجاً وطويت جسمي عليه لأقيه شر الشظايا المنهمرة .

شعرتُ برطوبة تنساب على ظهري ، وأنتاب أنفاسي ثقل لم أعهده سابقا ، ولم تعد قدماي تحملني ؛ ودارت بي الدنيا بحركة لولبية ، وبالكاد ناديت على المهندس سفيان بعد ان رايته بعينين شبه مغمضتين وهو منهمك بإطفاء مصحف اشتعلت فيه النيران , ورميت الطفل بين ذراعيه وغرقت في بحر غيبوبة .

في المساء عدت الى رشدي ، وإذا بي ممدداً على سرير في المستشفى الميداني ؛ وسفيان يعتني بي وقد ربط رجلي بعصابة رأس أمي التي أعطتها لي عند التوديع في نهاية الاجازة .

ـــ       الحمد لله على سلامتك يا مهندس عباس ... هذه الشظايا أستخرجها الطبيب من جسمك خذها هدية لفاطمة ؛ ههههه .

ـــ       مهندس سفيان ... أين الطفل ؟

ـــ       لا تخف يا صديقي ، فقد سلمّته للشيخ حسين أمام مسجد القرية ، ولكن ....

ـــ       لكن ماذا يا سفيان ؟

ـــ       لا عليك ، لا شيء .

ـــ       بحق أخوتنا وصحبتنا إلا قلت .

ـــ       البقاء في حياتك فقد استشهد جدو عبد الرحمن برصاصة قناص وهو يرفع الاذان لصلاة العصر .

تنهدتُ واسترجعت وبكيت بصمت ، وقلت :

ـــ       الى رحمة الله جدو عبد ، هنيئا لك ذلك وليرحمك الله ، فمكانك في الجنة مع الشهداء والصديقين .

 

دخل الشيخ حسين يعاودني من إصابتي وهو يحمل الطفل ، فانتابتني زوبعة فرح ، وما أن رأي أسارير ابتسامتي المشرئبة بالبكاء على جدو عبد الرحمن ، سبقني بالقول :

ـــ       بارك الله بك يا أبا فاطمة ، فمن أحيا نفساً كأنما أحيا الناس جميعاً ، وقد أحييت الناس اليوم بإنقاذك هذا الطفل ، وها قد هدأ القصف فما علي إلا ان أرسله الى شيخ القرية ليسلمه الى أقاربه , بعد ان تودعه ؛ فلك معه ذكرى .

 

ضممت الطفل الى صدري ثانية وقبلته مراراً بلا شعور ، وأطلقت زفرة عميقة عطفتها بقولي : " آه يا أحباب الله ؛ لكم الله " ، ثم سلمت الطفل اليتيم الى الشيخ حسين وودعته بنظراتي وأنا أمسح دموع الوداع لفراقه ، وأشحتُ بوجهي عبر النافذة لتتراءى لي فاطمة وهي تزرع في حفر القذائف أزهار الياسمين .

 

عبد الله سعد العبودي