مع إشراقة شمس صباح كل يوم ، ومن إحدى بيوتات قرى المحافظات الجنوبية يتصاعد من تنور أم سالم دخان الحطب المحترق استعدادا للخبز ، فولدها سالم يحب تناول الفطور مع الخبز الحار حسب رأي أمه التي ربته على دلال رمشها فهو كل ما تبقى لها بعد وفاة زوجها في إحدى التفجيرات الإرهابية بعد الفترة التي تلت إسقاط النظام الصدامي المقبور .

عملت أم سالم في الخياطة وطبخ الطعام للآخرين كي توفر ما يحتاجه ولدها لإكمال مسيرته التعليمية ، فكانت له الام والأب والأخ والأخت والصديق، فأصبحت له سند بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، امرأة بسيطة بعطاء كالنبع الرقراق تغدق على فلذة كبدها كل أسباب الراحة والسعادة ؛ فهي ترى فيه مستقبل راحتها الأبدية .

مرت السنون ، وحدثت تغيرات عديدة على الساحة السياسية والأمنية ، ورغم تلك الأحداث الشائكة أكمل سالم دراسته في كلية التربية لكن لم يحالفه الحظ في إيجاد وظيفة حكومية تترجم حصيلة تعب والدته كحال العديد من أقرانه ، فافتتح محل صغير في قريته لبيع المواد الغذائية ، وكانت حالته المادية لا بأس بها ، فقد تعلم القناعة من كفاح أمه وعطائها .

وفي إحدى ايام الجمع وبينما كان يتهيأ لصلاة الجماعة أطرقت مسامعه انطلاق فتوى الجهاد الكفائي من المرجعية الدينية العليا لقتال عدو عاث في ارض بلاد النهرين فسادا وإرهابا باستيلائه على بعض المناطق، فتشكلت  على ضوء الفتوى فصائل وقطعات من المواطنين عرفت بالحشد الشعبي للدفاع عن حياض الوطن ، والتحق العديد من أصدقاء سالم بقوافل الأبطال الذين ارتسمت على  وجوههم فرحتين ( نصر مؤزر او شهادة عاجلة ) .

ودّعهم وقلبه يهفو ليلتحق بركبهم المقدس ؛ لكن كيف يفعل ذلك مع أم تخشى عليه نسيم الربيع ؟ كان هذا التفكير يؤرقه كثيرا وهو يتابع باستمرار الأخبار ويشاهد المجازر التي يرتكبها أولئك المجرمين بحق أبناء وطنه من النساء والأطفال والرجال وكيف حالهم وهم يُهجرون قسراً من مدنهم الآمنة ؟

مرت ايام وسالم على هذا الحال يعيش صراعا داخليا بين عشقين غُرسا في قلبه من نعومة أظفاره ، أمه ووطنه ، أي نداء منهما يلبي ؟ قلب أمه وتضحياتها ام مقدسات عقيدته ووطنه ؟

كانت تلك التساؤلات تعج في رأسه وهو في طريق عودته ظهراً لمنزله ، وصل وسلم على أمه وقّبل يديها ورأسها ليجد طعامه جاهزا ككل يوم .

جلس مع أمه يتناول ما رزقهم الله من فضله من نعمة الزاد ، ولكنه كان شارد الذهن ، وقد لاحظت أمه ذلك فسألته :

ـــ   سالم يمه شبيك ؟! مريض ؟ .

فأجابها :

ـــ   لا يمه مو مريض ؛ ما بيه شي .

ـــ   بس يمه فكرك مو يمك ! حاسه بيك شي ! ومتحير شلون تحجي .

ـــ   يمه تتذكرين بيت عمي أبو محمد الصباغ من كضّواالحرامي ابيتهم ؟

ـــ   اي يمه أتذكر ! صارت هوسه والديرة كل ويلادها طبوا لبيتهم وسحلوه سحل هذا الميخاف الله وداس بيتهم وما قصروا وياه ، شبعوه كتل .

كانت تتحدث عن الموقف بكل فخر واطمئنان ، بأن قريتهم آمنة بوجود الخيرين من رجالها ، فرد عليها سالم بالقول :

ـــ   اي يمه آنه جنت بالكلية ، ومن رجعت سولفتيلي وكلتيلي تمنيتك ويه اخوتك تأدبه لهذا الحرامي ، وكتلج يلا الولد ما قصروا بس أنتي ما جنتي راضية ، كلتي النسوان كله تسولف بولدها شلون ضربوه وانه ضليت ساكتة وما ادري شحجي ، تذكرين يمه؟

ـــ   اي والله يا يمه جانن النسوان مفتخرات وعمك أبو محمد اتشكر منهم كلش هواي ، خطية رجال جبير وشافاه رجيج ، من كسر الله ضلوعه هذا الحرامي .

فتبسم سالم وكأنه وجد اللحظة المناسبة في إخبار والدته بما يعزم على فعله ، فقال بعد ان اعتدل بجلسته ولمعت عيناه بأمل إقناع والدته :

ـــ   يمه يا بعد رويحتي ، انقهرتي أنتي وضجتي لأن ما شاركت إخوتي بضرب الحرامي ، زين متنقهرين اذا اخوتي راحوا يلزمون الحرامي الجبير وما اروح وياهم ؟

رمقته بنظرات استفهام وقالت :

ـــ   يااا يمه حرامي جبير ؟ خايب هذا وين ؟ وشعندك مكابلني يمه شمتاني ليش ما رحت وياهم ؟

ـــ   علمودج يمه ما رحت ، كلت تضوجين عليا وما ترضين .

فأجابت باستغراب :

ـــ   عفية عليك يمه آنه هجي ربيتك ؟! وين الغيرة يمه ؟ شلون تعوف اخوتك ؟ هاي مو رجاتي بيك أبد .

فشعر سالم بطمأنينة أكثر وعلم انه وصل لمطلبه فرد عليها :

ـــ   يمه عرفتي الحرامي الجبير يا هو ؟ وياهم اخوتي الّي راحوا يكضونه ؟

ـــ   لا والله يا يمه ما عرفته ! يا هو هذا ؟عمت عينه ان شاء الله .

ـــ   يمه هذا الحرامي اسمه " داعش " ، ذوله وحوش اعله شكل بشر ! اجونه من بره وداسوا تراب وطنه ، ويردون يهدمون المراقد والأضرحة ، ويعتدون اعلينه واعله نسوانه ، وهسه همه احتلوا الموصل ، ذبحوا الوادم وحتى الزغار ما سلموا منهم ، وسوو اشكثر شغلات ، ويكولون جايين ننشر الإسلام الحقيقي الما تعرفونه ! وكتلوا حتى المسيحيين وكل واحد يوكف جدامهم ، وسيد علي السيستاني الله يطول بعمره كال كل واحد يكدر يقاتلهم ياخذ أسلاحه ويلتحق ويه الجيش حتى يدافع عن وطنه ، وأخوتي يا يمه فزعوا وراحوا يتدربون عالسلاح حتى يقاتلونـهم ، وانه ظليت امتاني رايج ، ها يمه شتكولين اروح لو لا ؟

فـنظرت اليه بعينيها المغرورقة بالدموع وابتسمت وقالت :

ـــ   يا بعد طوايفي يا يمه ، انته ما تغله أعله اهل البيت فدوه اروحلهم ، انته وأخوتك يمه بيكم الزود وبيكم رفعة الراس ، يمه يا سباح كلبي ، الله شكاتبلنه يصير، العمر لا بيدي ولا بيدك ، روح يا شمعة بيتي ، والله حافظكم باهل البيت .

نهض سالم واحتضن أمه وقّبل يديها ومسح دموعها وهو يعلم مدى صعوبة الخبر عليها ، لكنه تجلد أمامها كجبل اشّم ليشعرها بالاطمئنان والقوة .

في تلك الليلة ، لم تذق عينا أم سالم النوم ، لتفكيرها بما قاله ولدها عن أولئك المتوحشين الذين لم يستطع احد ان يدرجهم لأي صنف ينتمون ، فلا الإنسان يتقبل أفعالهم ولا الحيوان ، كانت الصور تزدحم في مخيلتها ، كيف سيذهب ابنها الوحيد للقتال ؟ هل سيكون بخير؟ هل سينتصرون عليهم ؟ وغيرها من التكهنات التي أتعبت نفسيتها وجعلتها تذرف دموعها بصمت خانق كي لا يشعر بها قرة عينها سالم الذي كان يغط بنوم عميق يدل على ارتياحه ، لكنها توكلت على خالقها فهو ارأف بعبده واحن به من الام على طفلها .

أشرقت شمس الصباح وكان سالم يطالعها بشوق كبير وكأنها تختلف عن كل يوم ، أكمل فطوره وخرج من منزله قاصدا احد مراكز التطوع للحشد الشعبي .

وبعد ان أتم تدريبه العسكري ، حانت ساعة التحاقه لساحات الشرف والعزة والكرامة ، ارتدى بزته العسكرية وكأن خارطة العراق ارتسمت عليها ، تعطر بدعوات أمه التي عانقته طويلا وأمطرت مسامعه بآيات قرآنية للحفظ ، بعدها غادر قريته وكأن ريح الصبا تحمله على اكف الورد .

توالت الأيام والحرب لم تضع أوزارها ، والأبطال من القوات الأمنية والحشد الشعبي يطرزون سماء الرافدين بألوان الانتصارات بما يشعر الناظر اليهم بالسكينة والأمان ، وبدأ أبناء الوطن الواحد رغم تعدد أعراقهم وطوائفهم بمساعدة إخوانهم المقاتلين معنويا وماديا ليشاركوهم جزء من تضحياتهم العظيمة .

وسالم هو الأخر ، كان ملتزما جدا بتنفيذ الأوامر وتطبيق الخطط العسكرية وأبدى شجاعة كبيرة في العمليات القتالية التي كان مكلفا بها ، ليفاجئ في احد الأيام بوصول أحدى قوافل المساعدات التي قدمتها قريته وكان وصولها فجراً ، فشاهدها وهي تترجل من السيارة تحمل بيديها عدد كبير من أرغفة الخبز التي جهزتها بتنورها الطيني ، لم يصدق ما رأته عيناه وقال في نفسه :

ـــ   يمه شجابج ؟! .

لكن لما لا يصدق ذلك ؟ فهي نفس تلك المرأة التي أفنت شبابها لينعم هو بالراحة والأمان ، ولم تتركه في اي موقف مر به والذي كان أصعبها فراقه عنها في هذه الحرب ، ليعلم فيما بعد أنها من شجعت الأهالي وحفزتهم لجمع تبرعات قوافل المساعدات من قريته .

كانت تباشير الفرحة واضحة على محياها ، وهي تخطو فوق ثرى وطنها المفدّى بدماء فلذة الأكباد ، وسالم يطالعها بدموعه التي تسابقت مع أنفاسه لاحتضانها ، وامتزجت نظراتهما مع إشراقة فجر جديد حمل نسيمه رائحة خبز من نوع اخر .

زينب علي عمران