(1)

ثورة الشوق

تنفس الصبح بنور الشمس .. عاكسا التفاؤل في النفوس مع إشراقة يوم جديد تلتمس الناس حلول البركة فيه .. لم تغمض عيون ( أم جاسم ) ولم تر للنوم طعما .. أّرقها القلب على أولادها في سوح القتال ؛ فهي تعّد كل المقاتلين أولادها لأنها لم تنجب سوى البنات ؛ أما جاسم فقد اختار لقاء ربه منذ صغره .. وذهب إلى عالم افضل وأوسع وأجمل .. قضت ليلتها وهي تدعو و تقيم نوافلها لعل الله يستجيب لها بحسن الخاتمة التي ترددها ليل نهار في تراتيل صلواتها .

بدأ صباح ( أم جاسم ) يختلف عن الصباحات الأخرى .. إذ عزمت على الالتحاق بأولادها .. فضميرها لم يقبل بأن تنام على فراش وثير وهم يتوسدون الثرى ، بل ويأبى لها أن تنعم بدفء وهم يلتحفون السماء .. فـ " كيف لقلب أرقه الفراق أن ينعم بالهدوء؟ وكيف ستعزي السيدة زينب الحوراء عليها السلام في مصابها وهي بعيدة عنهم ؟ وهل ستقبل سيدة الخدر بهذا القليل ؟ كلا وألف كلا " ، تحدثت أم جاسم مع نفسها وأكملت : " هل ستقبل سيدة النساء تعزيتي وانا اقبع في داري متوسدة فراشي انعم بالدفء وأولادي هناك يلتحفون السماء؟ أين صرختي التي أصرخها في كل عام مع كل هلال لعاشوراء (ألا من ناصر ينصرني) ؟ ها هي الفرصة مؤاتية لما لا أطبق ما أقول .. وإلا فأن صراخي أنما كان رياء ا ! أين مواساتي لسيدتي وهي تُسبى؟ هل كانت دموعي بلا هدف؟ هل كان لطمي وأنيني مجرد لحظات عاطفية أفرغت فيها شحنات حزني العميق على إمامي الحسين وانتهى الأمر؟ هل ستعود مأساة الطف من جديد ؟ هل ستقيّد الأغلال معاصم زينب والرباب وسكينة مرة أخرى ؟ هل سيُذبح عبدالله من الوريد إلى الوريد من جديد ؟ وهل ستُباع بناتي في سوق النخاسة؟

انتفضت أم جاسم والدم يغلي في عروقها ... تفقدت بناتها الغافيات في أمان على أسرتهن .. رأت على وجوههن البراءة بكل معانيها ترتسم بريشة الكرى الذي أضفى جمالا على جمالهن .. ربطت على قلبها .. تحزمت بالصبر .. عزمت على الرحيل إلى مكان يوصلها إلى الجنان وتهنأ عيونها بالنوم فيه ، وتكحلها بتراب مزجته دماء الشهداء بعبق الجنان وشذى رفرفة أجنحة الملائكة فيه .. مكان احتضن أولادها حيهم وميتهم .. طوقهم بأكاليل الشرف والغيرة .. ودعت بناتها وهي تلتفت أليهن قائلة : " لن ادع أيدي النخاسين تصل أليكن أبدا ما حييت " .

(2)

شوق العقيدة

لاحت السواتر من بعيد لام جاسم .. استبشرت خيرا وخفق قلبها جذلا يكاد يقفز من مكانه لولا أن ربط عليه الحياء درعا من الأيمان .. اقبل أليها أولادها وهم يستغربون تواجدها الذي أثار انتباههم ..

ـــ  ما بكم يا أولادي؟ (تحدثت أم جاسم) ... أهكذا تستقبلون أمكم ؟ انتم من يصنع أمل الحياة ، وما أتيت الا لأسقي هذا الأمل وأحييه في نفوسكم .

أجابها احد الأبطال .

ـــ  نحن نخاف عليك يا أماه !!

رمقته بنظرة مزجت فيها العتاب والحنان ، وقالت :

ـــ  وهل من لديها أولاد مثلكم تخشى شيئا ؟! أنا هنا بأمان أكثر معكم ، أنا أواسي سيدتي ومولاتي زينب عليها السلام ؛ وها أنا اقوي عزيمتكم واعتني بكم وأتفقد جريحكم وجائعكم ، وأجلي هم من به هم منكم ... يا بني وجودي معكم يشجعكم .. يعطيكم فيضا من الشجاعة والعزم على دحر هؤلاء الأعداء .. أريد أن يرى إمامي المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف اثر خطواتي على هذه الصحراء، وان يسمع واعيتي وانا اشّد من أزركم أيها الأبطال .. أريد أن أشارككم في الأجر .. فهل تستكثر عليّ هذا الثواب العظيم .. لقد تركت حج بيت الله تعالى هذا العام لأنني عاهدت ربي والنبي الأكرم صلى الله عليه واله بأني لن اذهب إلى مكة إلا وراية النصر بيضاء ترفرف بيدي ، فهل انتم على استعداد أن تعينوني في أداء نذري وعهدي ؟! فقد تركت بناتي غافيات في أمان انتم تصنعونه لهم .. وتركت أحبتي وبيتي لأرافقكم .. فانتم عندي أغلى .. لأنكم أولادي .

(3)

مع الأبناء

احتضنت تراب السواتر .. فهو عندها أغلى من التبر والجواهر .. تراب في كل ذرة منه سِفر يحكي لها تاريخ هذه الأرض المعطاء التي احتضنت ستة من الأئمة المعصومين ومن الأولياء الصالحين الكثير ، ويمشي على أرضها الإمام الموعود الذي يحوطها بدعواته المباركة .. ستكون بداية ثورة الإصلاح العالمية .. نعم هي الأرض التي تفترشها أم جاسم .. في كل يوم ترسم بقامتها صورا من الوفاء لأبطال عدتهم كأولادها وأكثر .. أعطتهم من حنان الأمومة ومن صلابة الأبوة ومن الأيمان بالقضية ما جعلهم فرسان لا يُشق لهم غبار.. احتوت بكفيها خيوط السماء .. واختصت بدعواتها أبنائها المجاهدين .. احتضان السواتر كانت أمنية عشقت تحقيقها .. هي معهم تشحذ هممهم .. آلت على نفسها أن لا تعود إلى بيتها إلا بعد أن تنال أحدى الحسنيين .

ليل أم جاسم متواصل مع نهارها .. فهي لا تعرف للنوم طعما إلا ساعتين تبدأ بهما بعد أن تنهي صلاة الليل معشوقتها الأبدية .. تنام بعد الساعة الثانية صباحا لتستيقظ في الرابعة صباحا .. تبدأ بعملها الدؤوب .. تتفقد أولادها .. ترعى المريض ، تواسي الحزين ، تعطي المحتاج ، تعد لهم الطعام بكميات كبيرة .. حينما يتعرضون لهجوم من العدو تكون أول من يتصدى له ، ويشتعل في قلبها جنون عابس ، لأنها ترى أن أعدائها هم انفسهم أحفاد الشمر وال أمية ؛ فلا تشعر بنفسها إلا وهي تقاتلهم بشراسة .. هنا يجن جنون أولادها فيتسابقون من يصل إليها أولا ليدفع عنها الخطر .. هذا ديدن أم جاسم في تلك السوح التي ضمت معسكر الحسين عليه السلام .. تدافع عنهم ويدافعون عنها .. في كل يوم تعيش قصة من قصص الطف ؛ فكتبها التاريخ بصفحات العز والفخر .. وما تزال حكايا أم جاسم مستمرة لم تنتهي .

آمال الفتلاوي