جالت بنظرها إلى السماء ؛ تتضرع لله بكل السور القرآنية التي حفظتها وبأدعية مأثورة .. تناجي الله بروحها التي كانت تنطق قبل لسانها " ربي أحفظه لي .. ربي أرجعه سالماً " ؛ مع أنها ليست الليلة الأولى لالتحاقه ، فهو منذ أكثر من سنة يقاتل في صفوف الحشد المقدس .. لكن هذه الليلة كانت تشعر بانقباض متعاقب في قلبها الواله وكأن ثمة ما ينُبئها بخطر داهم يترصد سعادتهما .

حاولت أن تهدأ وتلفظ تلك الأفكار المخيفة من رأسها ؛ لأنها ببساطة لا تستوعب احتمال خسارته أو فقدانه لأي سبب ! وهو الذي جاهد للحصول عليها بسلاح الصبر والأمل لسنوات طويلة ؛ حشد فيها كل طاقاته ليواجه رفض أهلها المستمر لتزويجه أبنتهم الوحيدة لأسباب اعتزازهم بها وصعوبة التخلي عن اشراقتها في حياتهم ! حتى ظفر بالقبول وتمت خطبتهما.

ابتسمت فجأة بعد أن داعبتها الذكريات ؛ وراحت تتذكر كلماته الواثقة : " أنت لي .. طلبتكِ من الله وعندي ثقة بأنه لن يردني خائباً " .. " سأبقى أجاهد حتى أنتصر في الحصول عليكِ" .. ثم فجأة داهمتها ذكريات موقفه من الانضمام في صفوف الحشد المقدس وهو يقول لها بعزم مقاتل : "كنتِ قضيتي وحقي ولم أقصر في الدفاع عن رغبتي بالزواج منكِ ؛ أما الآن فقضيتي أكبر وحقي أجلّ وأعظم ! فهل تتوقعين مني غير الجهاد ؟!" .

أجابته حينها وهي تضحك بدموع أو تبكي بابتسامة : "لن أعارض رغبتك ؛ فقط عدني بالرجوع ؛ آه .. أعلم أنه كلام غير منطقي لأن أرادة الله نافذة عليّ وعليك لكن هكذا ؛ عدني لاحيا بوعدك ، عدني لأنك ستنتصر فمن جاهد بالحب مثلك وتمرس على النصر لن تدركه الهزيمة ".

عادت إلى وسادتها وهي تحمل ذكرياتها وخوفها الذي لم يشأ مغادرتها ، محاولةً النوم عسى أن يوقظها في الصباح صوت اتصاله فتطمئن عليه و يملئ بصوته صمت انتظارها له ؛ وبعد ساعات من التأمل في صورته التي زينت شاشة هاتفها ببزته العسكرية وابتسامته العاشقة ؛ استسلمت لنوم عميق .

في ساعات الصباح الأولى سمعت قصيدة "نحن لا نهزم ومنا عطاء الدم" ؛ هذه كانت رنة هاتفها التي خصصتها له وحينما تسمعها يفزع قلبها للرد عليه .. أجابت بصوت ضعيف : " ألووو ... نعم " ؛ لم يكن صوته ! إنما صوت والدته ! وبلحظة نسيت أن تسلم أو تنتظرها لتسلم هي عليها وكأنها إنسانة مفجوعة ! " خالة أشبي امجد " .. لم تتمالك أم أمجد دموعها ، لتجيبها بحسرة مرعبة : " أبنتي زهراء أمجد أصيب بمعركة الخالدية ؛ أدعي له ... يحتاج دعائك " ، وانتظرت دقائق لتجبها زهراء وهي تقول : " ألوووو .. ألوووو " .

لكن زهراء كانت تحت تأثير الصدمة ؛ لم تصرخ ! لم تفهم ! لم تسمع ! فقد فقدت وعيها ، لم يمر عليها وقت كهذا الوقت ، صمتها كان مخيف وكأنها تجردت من شعورها ! أما دموعها فكانت قد تحجرت تماماً .. وبعد دقائق طويلة من الذهول راحت تخاطب جميع من حولها بذات العبارة وبهستيريا :" المهم حي .. المهم حي" .

حاول أباها تهدءتها .. احتضنها وهو يردد : " نعم أبنتي حي وسيتعافى ؛ وسأزوجكم .. ثقي بالله أنت مؤمنة وخطيبك بطل .. وأنا أتباهى به أمام الناس .. فقط اهدئي حتى نذهب ونزوره " . وأبتسم ممازحاً : " ألا ترغبين برؤيته ؟ " .. لتجيبه بشهقة حرى : " أرجوك أبي أرغب وحالا ! فلم أعد أطق صبراً ! والجميع يمتنع عن توضيح حالته ؛ أريد أن أراه بنفسي على الأقل لأساعده على تجاوز ألمه .. فقد كان يقول لي : "أنتِ بلسم جراحي" .

وفي مسافة الطريق الذي قطعته بكثير من الدعاء والدموع وغليانها الذي لم يهدأ ؛ وصلت إلى المستشفى وهي تقدم خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الوراء لشعورها بصعوبة تقبلها لرؤيته هامداً على فراش الوجع ؛ يئن من الألم وهي ستكون عاجزة عن مداواة أصابته وإيقاف نزيف قلبها الذي سيغرقه بمزيدٍ من الوهن .

وصلت لنهاية ممر صالة العمليات وهي بحالة لا يمكن معها تقبل أي صدمة أخرى أو أي خبر عن أمجد سوى أنه بخير لدرجة كل من رآها مسح على رأسها وقال لها : " سيعافيه الله من أجلك " .. وبالرغم من شدة حزنها كان قلبها يختلس الفرح خلسة حينما تسمع دعائهم هذا .

وبعد ساعات من الانتظار أو أيام وربما سنين لأن انتظارها كان موحشا وكأن عقارب الساعة تمتص دمها فتخور قواها لحظة بعد أخرى ، فُتحت الباب ليخرجوا أمجد لغرفته الخاصة وتقدم الطبيب لعائلة أمجد وطلب منهم الانفراد لكنها اعترضت وهاجت وصرخت : " أنا خطيبته .. كفاكم عبثا بمشاعري .. من حقي أن أعرف حالته .. قل لي " حي " وأي شيء عدا ذلك سأتقبله .. قل لي " قلبه ينبض" هذا يكفيني لكن لا تعاملوني على أني غريبة عنه .. أنا أولى الناس به .. أفهموا ذلك ... أجابها الطبيب : " اهدئي .. نعم من حقك أن تفهمي .. ولكن استوعبي قبل ذلك معنى أن يفقد المرء منا أحد أعضاءه فداءً للوطن ... فلا أسف على مثل هذا الشرف والوسام .. خطيبك بطل " .

" يفقد .. أعضاءه .. أمجد " .. هكذا صارت تهذي دون شعور ، وعندها لم يجد الطبيب طريقة يخمد بها ثورتها سوى قوله الحقيقة التي ستفهمها عاجلاً أم أجلاً ، وبصوت تقطعت حروفه وجعاً : " أُجُبرنا على بتر ساقيّ أمجد .. فحالته كانت حرجة للغاية " .

 لوهلة شعرت أنها لوحدها في هذا العالم ؛ وتجري حافية القدمين نحو كوة بعيدة في جدار عملاق تحاول أن ترى فيها أمجد واقف على ساقيه يمد يده لها .. كانت قد أغمضت عينيها بشدة في تلك اللحظة وصمت أذنيها عن بكاء والدته وانهيار والده وعويل أخواته وتمتمة الحاضرين بكلمات غير مفهومة .. وفجأة استعادت شيء من وعيها وقالت وهي تبتسم بمنتهى الحزن : "المهم حي" ..

مر يومها الأول جوار غرفة أمجد وهي صائمة تماماً عن كل شيء عدا الصلاة التي لم تجد غيرها سكناً لأوجاعها وقربة إلى الله لشفائه ، دخل أهل أمجد لرؤيته أكثر من مرة ؛ أما هي ؛ فكانت تنتظر ولا تعلم ماذا تنتظر! ربما تريد أن يطلب هو رؤيتها ! أو أنها تخشى رؤيته خشيتها من أن يتألم من رؤيتها بعد حالته التي لم يستوعبها أحد ولا حتى هو أو ....... ؟

تشظى ألف سؤال داخل رأسها ؛ لم تجد إجابة واحدة على تساؤلاتها سوى انتظار ما سيحدث !  وما حدث بالفعل هو جلوس والد أمجد أمامها ووجه حديثه لوالدها وبحزن عميق قال : زهراء من الآن حرة ؛ فأمجد فقد ساقيه ولم يعد كما كان .. نحن نحبها ولا نقبل أن نظلمها .. هي ليست مكلفة بالارتباط به وهو في هذه الحالة ، وهذه هي رغبة أمجد "  .

قاطعته زهراء بلهجة قاسية : " ليس من حقك أن تقرر عني وعنه ، استدارت لوالدها تحاول أن تفسر ردة فعله فهي تخشى أن يكون رأيه مطابق لرأي والد أمجد ، لكن المفاجأة أنها رأت أبيها يبتسم ويقول لها : " لن أسمح بذلك وسأعقد قرانكما هنا في المستشفى ، وستكونين زوجة صالحة لبطل همام ؛ وهذا كل ما عندي لأقدمه للوطن زوجة مجاهدة لمجاهد بطل " .

احتضنت أبيها وهي تبكي بسعادة وتطلب منهم أن يسمحوا لها برؤيته ؛ فهي الآن مستعدة لتكون عونه ورفيقة دربه مدى الحياة ، يمكنها تحّمل أي موقف الآن ، الجميع كان في حالة استغراب ودهشة من موقف والدها الاستثنائي كيف وهو الذي عارض خطبتهما لسنوات يقدمها هكذا كهدية متواضعة لأمجد ؟؟؟ ما الذي غير موقفه ؟ تساؤلاتهم كانت بصمت لأن ما قاله أبو زهراء ألجم جميع الأفواه وكتب كلماته وموقفه بقلم من ذهب ، بعد دقائق أخبرها والد أمجد بإمكانها الدخول الآن على أمجد لأنه ينتظرها ويسأل عنها .

رتبت حجابها ورسمت ابتسامة ومشت ببطء تخاتل به خفقان قلبها ودخلت عليه ! كانت الغرفة مليئة برائحة التعقيم وباردة جداً لكنها لم تخمد فورانها ولم تبرد أعصابها المتوترة وهي ترى أمجد ممددا على سريره يختلس النظر إليها من عينيه المتعبة التي بالكاد فتحت لتُبصر زهراء .

تقدمت نحوه ونست ما هيأت له من كلمات وجمل .. ولم تنطق سوى بالحمد ، أما هو فحاول بجهد كبير أن يبتسم لها ويقول لها شيئاً .. أي شيء .. لكنه عجز عن ذلك مع أنها فهمت من عينيه ما أراد قوله ، وبقوا لدقائق يتحدثون بلغة العيون لكي لا تتعبه بالكلام .

بعد مرور أيام .. قرر والد زهراء أن ينفذ وعده لنفسه ولزهراء ، وما شجعه على ذلك أنه لاحظ أمجد يتعافى بصلابة وبإقبال على الحياة ؛ فجهز لوازم احتفال بسيط وحضر بالشيخ لغرفة أمجد وبحضور عائلي تم عقد قران أمجد على زهراء في المستشفى التي لم تشهد لحظة تاريخية كهذه .

طلب أمجد أن ينفرد بالحديث مع " زوجته " وكان سعيد بهذه الكلمة سعادة لا توصف لدرجة صار يكرر كلمة "زوجتي" كلما أراد مناداتها ! وبعدما أصبحا لوحديهما قال لها : "سأقص عليكِ أخر ما أتذكره قبل إصابتي .. كنت أقف بالخطوط الأمامية بمواجهة حتمية مع نيران داعش ؛ وفجأة شعرت بضباب يلوح في الأفق ؛ واختلفت عندي الصورة وكأني بأمامي سيد الشهداء يستنصرني ويناديني باسمي ! لا أتذكر جيداً .. ما أثار جنوني لحظتها ولكني قفزت أمام الساتر وصرت أرمي العدو وكانت خطوتي الأخيرة باتجاه الطف ! هذا فقط ما أتذكره ؛ ربما يكون حلما ولكن فعلاً لن أنسى خطوتي الأخيرة .

لم ترد عليه ولا بكلمة لأنها لم تستغرب قوله أو لم تجد ما تقوله .. وبعد دقائق صمت مد يده لها وشد عليها ليهمس لها " :زهراء ... أخشى عليكِ أن تندمي في يوم من الأيام لأنكِ ارتبطتِ بشخص عاجز . أنا الآن لن استطع تنفيذ كل وعودي لكِ بالسعادة " .. أجابته بسرعة ودون أن تعي ما تقول : "مستعدة أن أكون تحت قدميك عمري كله لأنك من أحببت" .. انتبهت سريعا لجملتها .. يا الهي ماذا فعلت ؟ تمتمت في سرها وهي تنظر لعينيه التي أغرورقت بالدموع ، اعتذرت بكثير من الكلمات المبعثرة وبارتباك كبير ثم فجأة سكتت وأردفت قائلة : "سأكون عكازك وفي خدمتك وفي قلبك مدى الحياة" .

 

ايمان كاظم الحجيمي