غريبة هي الحياة وقاسية، والأكثر قسوة هي تلك الغضة التي نشعر بها أمام أناسٍ بنوا صروحهم التي تقزمنا أمام هيلمانها وعظمتها ؛ ممن لسنا أقل منهم في شيء سوى ثبات العقيدة .

والغريب في الأمر أن هكذا أشخاص يولدون ويعيشون مع فوجٍ من أمثالهم ، فعندما نذهب بحثاً عما ورائهم وما تركوه نشعر بهزيمة اكبر ونمتعض من ذواتنا ، فنتيقن أن وراء كل رجلٍ عظيم امرأة تآزره وتشد عزمه وتدفع بهمته إلى الأمام، زوجة كانت أم أو أخت أو كل الأمثلة مجتمعة معاً بفكر واحد .

كيف ذلك ؟ وكيف يحدث أن كل من يخصه يسير على نفس الخطى دون تخاذل او تقاعس ؟ حتى الهواء والطبيعة وكأن كل شيء انصاع لرغبة النصر ، فما أحوجنا لهذه الأمثلة وما أصعب موقفنا لا موقفهم من هذا كله  .

إذاً ما دورنا نحن ؟ أين وجودنا ؟ في أي مكان طبعنا بصمةً لا تُنسى ؟ أنا أبحث فلا أجد .

نحن من نشيد بانتصاراتهم ، يقتلنا الحنين ويتملكنا الامتنان ! ماذا فعلنا ؟! .

لا شيء إلا النظر من خلف الكواليس ، كمن يضم انتصارات غيره في قائمةٍ يظن أنها دليلُ فخره لا هزيمته كي يريح ضميره فحسب ! .

إن الفتوى كانت بالجهاد الكفائي نعم أعلم ، كما كان عبد الجبار يعلم ذلك ، ويعلم انه جهاد كفائي وليس عيني، ولم ينسى أبداً أنه أبٌ لأحد عشر طفلاً أكثرهم إناث ، والبنت دوماً هي الأحوج لعطف أبيها ! وكان يعلم أن والدته بحاجته فهي تسكن معه وتحتاج لبره في فصول عمرها الأخيرة ، فقد تكالب الشيب على قواها .. من سيمد يد البر إليها بعده ؟ ويعلم جيداً أنه لم يترك لهم المال الكافي ! ولم تسعفه سنواته الخمسة والثلاثون على بناء بيت يحمل كل وسائل الراحة والرفاهية لعائلته كان يعلم كل شيء ويعي تماماً ما سيحدث بعده .

لماذا رحل إذاً وهو واجبٌ كفائي ؟ لماذا لم ينظر خلفه ليرى ما ترك ورائه ؟ لماذا كانت والدته تتجسد بهيئته حين تتكلم أمامنا وكأننا نحدث عبد الجبار بشحمه ولحمه ؟  

فنراها تقول : " أن هذا المصير هو جل ما أردته لولدي " فتشكر الله وتحمده على " أن دمه إنما سال على طريق الفتوى في سبيل الحفاظ على مقدسات الوطن " .

نعم .. تملكتها لحظات ضعف لثوانٍ فقط ... سألت نفسها : " ماذا سأفعل ورمضان على المشارف يدق الأبواب ؟ وكيف سأعتني بزوجته وأطفاله مع صعوبة الحياة ؟ وهل سأتم واجبي قبل أن يُختم أجلي في موعدٍ معلوم ؟  

تتكلم بلسان حالها دون شعور حتى ظننت أنها لم تعد ترانا ! نسيت وجودنا ! وغاصت بهمومها ، لكنها وقبل أن تكمل ما جال في قلبها من تساؤلات رأيتها تسرع الى الاستغفار وتقول لِمَ أبالي والله يرزق ويدبر الأمور ولا تخفى صغيرة وكبيرة عن علمه ؛ تسأل نفسها وتجيب بحزم ، ثم أغمضت عينيها وعادت تتكلم عن ولدها عبد الجبار وكأنها تستحضره في ذاكرة القلب والعقل ، تحدثنا عن دينه وخلقه ، عن حنانه وعطفه على أحبابه ؛ وقسوته وإباءهُ أمام أعدائه .

ارتحل دوماً ممتلئة بالمشاعر والتناقضات، وكثيراً ما خرجت ألوم نفسي على نقصها وتقصيرها وأتساءل .. هل سأفعل ما فعلته هذه الأم ؟ هل سأحث زوجي على الخروج ؟ أخي .. ابني ؟ هل سأقنع نفسي كما حاولت من البداية أن الجهاد كفائي وما من داعٍ لخروج الجميع ؟ التحاق الجميع  ؟ استشهاد الجميع ؟

كلا .. لم يعد هناك مفرٌ من المراوغة، والرضا بأنصاف الحلول ، بل لا بد من تحشيد الفكر والعمل لعقيدة واحدة وهدف مدعاة للفخر، هذا ما أراد البطل عبد الجبار أن يوصله لعقولنا وسواعدنا .

نغم المسلماني