بكاء الرجال ما هو الا دليل على وقوع مصيبة اكبر من حجمها ، وهذا ما حصل هذه الليلة ، فالجو الملبد بالغيوم السوداء القريبة من الأرض جعلت الطائرات المحلقة لحماية الجيش تَسبت في جحورها هذه الليلة ، فأتاح لقوات العدو الهجوم العشوائي بالأسلحة الثقيلة ، مما أدى الى تقدمهم  قريبا من الثكنات العسكرية .

" احضروا له الماء ... صبوه عليه ... الصباح قريب ... لا تمت يا محمد " .

ونداءات وأصوات أخرى بالكاد تُسمع من دوي الرصاص، وبين قبلة من هذا وبكاء من ذاك ، وكلام ممزوج بالتشجيع وشد العزيمة بما يجمع له قواه حتى حلول الصباح ، لكن رصاصة القناص استقرت في صدره ، وبالكاد يتنفس، فراح ينشر ابتسامته على وجوه رفاقه كمن ينشر الحلوى فوق رؤوس العرسان ، يخبر صديقه الذي بجانبه :

ـــ  الم اقل لك اني سأنال الشهادة قبلك وقريبا .

يجيبه صديقه :

ـــ  لماذا أخرجت الأدعية والاحرازالتي أعطتها لك والدتك من جيبك ؟

ـــ  لأنني أتيت الى هنا كي أنال الشهادة ، وتلك الأدعية كانت تمنعني من نيلها .

ـــ  ومن لزوجتك  وأطفالك من بعدك ؟

مع أنين مصدره الم خفي ...

ـــ  لهم الله والطيبون ... فقط اخبروا أمي بأني سأشتاق أليها، واخبروا زوجتي بأنها ستبقى في قلبي ، واخبروا طفلتي بأني أحبها كثيرا، واخبروا ولدي الذي لم يبصر النور بعد ؛ بأن يكون شجاعا ليدافع عن بلده مع الأبطال .

أخذت العيون تهرب ببصرها نحو الأفق البعيد ، والجسد أصبح يقترب للسكون ، وراحت شفتاه الذابلتان تردد كلمات الشهادة " اشهد ان لا اله الا الله ؛ واشهد ان محمدا رسول الله ، وأشهد ان عليا ولي الله " .. كررها مرارا لينخفض صوته في كل مرة أكثر من التي قبلها .

أصوات من حوله تصرخ به : " لا تمت يا محمد ، لا تمت يا عزيزي " ، ولكن ساعة الموت دقت وحان رحيله الأبدي مثلما تمنى " شهيدا " .

صمتت أصوات الأسلحة الخفيفة والثقيلة مع حلول الفجر، ولكن أصوات المقاتلين ارتفعت بالحوقلة والحمدلة والتكبير ، فقد فقدوا هذه الليلة شخصا عزيزا لم يكن فقده بالحسبان .

رفض جميع أصدقائه أن يرافقوا جثمانه الى منزله ، او أن يتصلوا بأهله ليخبروهم بأن ولدهم قد نال وسام الشهادة كما تمناها .

سارت السيارة وفوقها جثمان الشهيد، بعد ان نثروا فوقه طلقات الرصاص الفارغة بدل الورد والياس ، فهذا جل ما يملكون ! وراح العلم يتطاير فوق جثمانه ولسان حاله يقول : " لا تقيدوا الشهيد ... دعوه حرا كروحه المحلقة " .

وها قد وصل الشهيد الى منطقته ... العيون تترقب خوفا ! كل منزل يمر من جواره تخفق قلوب ساكنيه أن كان هذا الزائر لهم ، فيهدأ ضجيج أهله وتسكن أنفاسهم ، عندما يتركهم ويرحل باحثا عن غير وجهة .

واخيرا .. وعلى أطراف تلك القرية الصغيرة ، وخلف أحدى البواب المغلقة ... صوت ينادي ليستعلم من الطارق ، ليأتيه الجواب ...

ـــ  " افتحوا الباب أنا محمد " !

لكن الصوت ليس صوته ، واليوم ليس موعد عودته فقد التحق بموقعه قبل أيام قلائل .

فتحت أم الشهيد الباب ، باكية العينين وكأنها تعلم بان  ولدها قد فارق الحياة ، هول الموقف جعلها تبكي وتزغرد في آن واحد ، أسرعت الى الجثمان لتحتضنه بأنين وبكاء ممزوج بزهو ورفعة لتسقط مغشية عليها ، تخلفها زوجته الباكية التي راحت تتمتم بكلمات أولها عتب وأخرها اشتياق وبين عتباها وشوقها ملامح الفخر بأنها " زوجة الشهيد البطل " .

زف الشهيد الى مثواه الأخير ، تاركا خلفه صغيرته التي لا يفقه عن الرجولة والشجاعة غير وجه ابيها ، لم تكن تعلم أنها ستفقد بطلها في يوم من الأيام ، تشتاق الى حضنه ودفء يده ، الى حكايات بطولاته وزملائه في الذود عنهم .

لم تصدق ما سمعته إذناها فالخبر مفجع ، ولكنها الحقيقة التي لا بد منها ، فرغم تلقينه المستمر لها بأنه " نذر أيام عمره من اجل الدفاع عن الوطن ، وانه ضيف يحل عليهم في كل عودة له من جبهات القتال " ، لكن مرارة الفراق يصعب تحملها خاصة بالنسبة لطفلة لم تصل لربيعها التاسع بعد .

تتراءى صورته أمام ناظريها في اخر لقاء لها معه ، وما أوصاها به عندما أهداها قلما وهو يقول : " سلاحي البندقية وسلاحك القلم " .

نهضت من سريرها مسرعة لتفتح دُرجها ، وتنتشل القلم من بين أغراضها وهي تبحث عن نصفه الأخر ، فقد انكسر قلمها الى نصفين صبيحة يوم سمو والدها الى سماوات الشهادة ، نظرت اليه وهي تتمتم بكلمات العتبى : " لقد علمت انه سيحدث سوء لك يا ابي ! عندما انكسر قلمي هذا .. وفعلا كانت تنبؤاتي صادقة ".

أخذت لاصقا من نفس الدرج وابتدأت تلفه حول القلم الخشبي محاولة ان تجمع الجزأين معا وهي تقول : " جراحات فقدك يا ابي لا يستطيع أي شيء إصلاحها ! كقلمي المنكسر هذا ... لن يعود الى سابق عهده مهما فعلت "  ، لتطرق عليها الباب وتفتح بهدوء وروية ؛ لتدخل عليها جدتها الستينية ووالدتها . تشدها جدتها من يدها بقوة لتضمها الى صدرها الحنون وهي تحدثها عن حملها بابنها الشهيد وكيف ربته وكبرته وطبطبت عليه ؟ كيف سهرت الليالي لأجل راحته ؟ وكيف علقت عليه أمنياتها ؟ ، لكنها رغم كل هذا فهي سعيدة كونها " أم الشهيد "  ، فقد كانت تغبط قريناتها لقربهم الى الله بهذه المنزلة العظيمة ، لكنها لا تستطيع ان تتمنى ذلك لولدها فقد كانت تدعو له بالسلامة والحفظ ، حتى انه طلب منها ان تدعو له بالشهادة في عدة مرات ، لكنها رفضت خوفا من ان يستجيب الله لطلبها ، لكنها اليوم تفخر بأنها أم لمن يسكن مع " الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا "  .

أما والدتها ؛ فقد راحت تخبر ابنتها " كنت أحب والدك كثيرا ولكني لم اعرف حجم هذا الحب إلا بعد فقدانه !!! أتمنى ان يعود لي يوم ولادتي بأخيك فلا فرحة لي وهو غائب عن وليده هذا .

في تلك البقعة من الأرض هناك من يشتاق له ، ومن يقول دائما " رحل عنا البطل " ، يشعرون بروحه ترفرف حولهم وتحميهم وتشارك معهم في القتال وتدعوا لهم بالنصر ، فما جرى له لم يقلل من عزيمتهم بل زاد شجاعة أقرانه ، فقد كانت حرارة فقده كوقود أججت قلوبهم لتزيدهم حماسا وعزيمة للدفاع عن الأرض والمقدسات .

مهما كان الألم كبيرا لكن قد تخفف من شدته المهدئات ، وهذا ما حصل بعد ولادة زوجة محمد وليدها " قاسم " ، فصوت جديد يجول في المنزل ، مصدره أحضان أم ولدت يتيما ، تشمه بحرارة ولهفه وعمق ، فتتخلل رائحته صدرها الى الأعماق ، فيشعرها ذلك بطمأنينة افتقدتها منذ رحيل زوجها ،  فتخبر الجميع بأنها " تشم في ولدها رائحة رجل فيه ذكرى احلى أيام العمر " .

آلاء هاشم القطب