كما هو معتاد .. قبلةٌ عابرة وعناقٌ طويل، لم أستغرب البتة ولم أشعر أن ثمةَ خطبٌ ما .

تلك الورقة فحسب ... تركها في راحة يدي ثم التفت وهو مغادرا المنزل يوصيني قائلاً : " لا تفتحيها إلا بعد استشهادي "، ذلك الشرط المشئوم قتل فضولي فأهملتها في درج قديم ودعوت لعودته سالماً بعدد دقات قلبي ... كان هذا كل شيء .

مكثتُ بعدها طويلاً على جسر الانتظار الذي أنبأني باستشهاده، لأني لم أفهم أنه العناق الأخير وإلا لأطلته قليلاً لأتنسم بضع أنفاس أخرى من شذى طيبه .

سابقتُ دموعي وركضت مسرعة ؛ أفتح الدرج علني أعرف ماذا سطر لي من كلمات في إجازته الأخيرة ؟ وكيف تنبأ أن روحه ستزين سماء الشهادة ؟! .

قرأتها .. وقلبتها مراراً أنظر ما وراء الكلمات فلم أجد ما يشبع قلبي، اختلط كل شيء داخلي ؛ حتى الرضا أصبح ممزوجاً بالغضب، كانت وصية ناقصة ؛ رجوني فيها أن لا أبكي على فراقه " عليج العباس يمه لتبجين عليه " مذيلةً بجملة صغيرة تخبرني أنه رحل لا طالباً ولا مطلوباً، فلم يترك شيئاً معلقاً يخصه في هذه الدنيا .

لم أصدق ؛ أحقاً هذا كل شيء ؟! ذرفت دموع العتاب قبل دموع الفقد .

ـــ   كيف ذلك بني ؟ فوصيتكَ غير منصفة ، فاستهلالك لها بقوله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون" ترك في نفسي ما ترك ! أتراكَ بجهل الأولاد وبحكم البراءة ظننتَ أنني في غفلة من أمري لتذكرني ؟!! كلا أنا لم أنسى أنكَ حياً تلوح في السماء، بل أحفظ ذلك كما أحفظ صورة وجهك الذي مزقني أليه الاشتياق !

ثم أوصيتني بعدم البكاء ! وكأنك تعلم أن ألم الفقد سيكون مريعاً، فأنتَ من أولادي الأقرب والأعز، عرفت ذلك  ولم تعرفني .. أحقاً كان هذا ظنكَ بي ؟! ظننتَني سأسلم روحي لشبح الجزع حين يطاردها بعد رحيلك ! إذاً كيف قدمتكَ أول القرابين ؟! ألا تتذكر كلماتي الأولى ؟! ألم تسمع صوتي وهو يشق خيام الليل وأنا أدعو لكم بالنصر ؟! أم أن خوفكَ على صحتي أبعدك عن الحقيقة ؟

ولدي ... كيف خطت يدك تلك الكلمات دون أن تستذكر يدي وهي تجهز لك حقيبة السفر الأخير ؟ والأدهى انك لم تخبرني بأنني طيلة زمن انتظاري كنت أحتفظ بوصية حسبتها ورقة نثرت فوقها كلمات حبك وامتنانك لي ؛ بيد أن حيائك المعتاد منعك من البوح به وجهاً لوجه !!! .

والآن وبعد رحيلك حان دوري لأكتب ..

" ولدي أسعد ... خيبتُ ظنك هذه المرة ؛ فبرغم أن استشهادك كان كرصاصة سكنت جوف قلبي حيث صورتك هناك ؛ إلا أن دموعي تسامقت دون البكاء، وآثرتُ ليَ الهزيمة بالعزم حين قدّمتُ أخاك ليحمل الراية بعدك ؛ وسأظل أشد أزر أبنائي الواحد تلو الآخر حتى أوفي ديني لله كسيدتي وحبيبتي أم البنين عليها السلام ، فأنا كما عهدتني أجلد الجزع بسياط الصبر والإيمان، وأخفي الدمعة خلف الأحداق كلما جهزتُ له ثياب الموت، واطرد رعشة تحتلُ جسدي حين أودعه كي لا يشعر بزلازلها وهو يختم قبلته الحُرى على يدي قبل رحيله، كما كنت أفعل معك ... ألا تتذكر ؟! .  

ولدي ...  كنت دوماً كما أتمنى ؛ نِعمَ الابن .. مطيعاً باراً بنا، شامخاً متكبراً على الأعداء، تقضي إجازتك القصيرة في خدمة عشقكَ الأوحد في موكب هيئة الحوراء .

وها انت اليوم قد نفضت تراب الأبواب ودخلتها فاتحاً محرراً، لا يليك الخوف ؛ ديدنك الإقدام ؛ وبشهادة رفاق المبدأ والعقيدة ؛ كنت أنت القائد بشجاعتك .

بني أسعد ... لم تخذلني يوماً ! ولم أخذلك ابدا .. إنما هو عتاب صغير كان يتلجلج في حنايا الروح فلفظته " ..

نغم المسلماني