الأمر جاءنا هكذا " انزلوا أسلحتكم ، وتفرغوا ﻻستقبال النازحين ، ستكون الحماية واجب غيركم " ...

تلّفت بعضنا للبعض الأخر ، ومرت صور شهدائنا وكأنهم بيننا وبين القوم ، ومع استبشارنا بالنصر ، إلا ان ثمة حسرة تنفثها صدورنا ، تلك هي فقد أحباء على مسمع من هؤﻻء وفي داخل اراضيهم ...

هذه الحسرة ما لبثت ان تلاشت عند رؤيتي للعوائل القادمة وهي تتراكض خشية رصاص الدواعش ، وقد تفرق أوﻻدها هنا وهناك ، فيما تتعكز العجائز في مؤخرة قوافل الهاربين ولسان حالها يقول " المهم ان تنجوا يا اوﻻد وأمرنا نحن لله " ، في وقت هب فيه المقاتلون لاستقبالهم بقناني الماء وتقريب السيارات لهم ، بعد ان كلت أقدامهم من السير .

كل هذا لم يكن ليهمني ، ما همني وشدني ـــ خلال واجبي بنقل صناديق الماء لهم ـــ تلك الصبية ذات العشر سنوات بثوبها البرتقالي ، تحمل على يمينها طفلا ثقيلا وتسرع خلف امرأة مسنة بالكاد تمسك ثوبها ، فيما تهرول الاولى حاملة طفل اخر ... بقيت عيني متسمرة على هذا المشهد ، حتى اقتربوا ، فتباطأت الخطوات وثقل الحمل ... أنها لحظة الوصول لكنها كادت تسقط من شدة الإعياء فتلقفها الرجال ﻻعانتها على العبور من الساتر ، ومرت برهة من الزمن لم ارى تلك الصبية التي كانت خلفها ، حتى أطلت اخيرا ؛ يدفعها الآخرون ، ممن يستعجل العبور .

كانت شاحبة الوجه نحيلة بعيون غائرة من العطش والشمس ، ولأني كنت أُنزل صناديق الماء من السيارة الى الارض ، وأسمع صوت الشيخ وهو يؤمنهم على أنفسهم وأعراضهم وسترهم ، رميت اليه ببطل ماء مستعجلا لإروائها ، فما كادت تضع الماء حتى تهاوت الى الارض ... قفزت لأنقذ الموقف ، أحضرت لها إناءً معدنيا فيه ماء بارد ... فسمعت اصطكاك أسنانها وهي تضرب في حافة الإناء دون ان تشرب .

نادى الشيخ بما يغطي بدنها ، لحملها للسيارة مع العوائل ، ووسط ارتجافها ، راح الشيخ يقرأ على رأسها آيا من القران الكريم بما يسكن روعها ويهدأ وجعها ، حتى نطقت اخيرا .

ـــ  لقد اخبرونا إنكم ستفعلون بالنساء شيئا سيئا ...

قالتها ، وتسابقت دموعنا للمآقي ، وخرست حناجرنا ، الا الشيخ ، راح يصدح :

ـــ  انتم الآمنون على أنفسكم وأعراضكم ، ونحن أخوتكم .

ووسط إصرارا الشيخ عليها بحنو أب رحيم كي تشرب الماء ... تسمرت عيناي على حالها ، وتذكرت السيدة رقية بنت الحسين .

لعله العطش او الخوف او الحرب هو الذي ذكرني بذلك . وصرخت دون ان اشعر : " يا موﻻتي يا رقية " ، فتداعى الرجال بالبكاء وحملوها على بطانية الى عائلتها التي كانت قد سبقتها بالصعود ودون انتظار ، فيما هزني خوف المرأة الذي لم أكن أفكر فيه من قبل ، حتى ابتلت لحيتي من البكاء ...

كانت عينا تلك العجوز ترقب الحدث من فوق السيارة بتأسف ، حتى ظننتها تستهزئ بضعفنا ، لكنها قالت قبل ان تبتعد السيارة التي تقلهم ...

ـــ  كم من كريمة لكم قتلت في هذه الارض ، دون ان يكون لها معين ؟!  

جلست ورفيقي على الارض وبكينا حتى ارتوينا من ذكر الطف ، ثم عدنا للعمل مكسوري القلب بين مظلومية الماضي والحاضر دون ان نستطيع تقديم المزيد .

لبنى مجيد حسين