تخرجت من كليتها بتقدير عال يؤهلها للدراسات العليا وباختصاص نادر يفتح لها ابواب المستقبل على مصراعيها ، كيف ﻻ وقد جدت واجتهدت وتركت كل زخارف الحياة من اجل ان تحقق طموحها، لم تكن محجبة لكنها كانت ذات لبس محتشم وبسيط فهي انسانة عملية تبحث عن تحقيق الذات وليس عن شكليات الحياة، وكل ما يؤرقها وجودها في مجتمع تغلب عليه المظاهر الاجتماعية والاعراف العشائرية ونظرة المجتمع للبنت وحصرها في طوق ضيق يحرمها فرصة جيدة مثل اكمال دراستها في احدى الدول المتقدمة .

مرت السنوات ولم تحظى بهذه الفرصة الا بعد ان تجاوزت الخامسة والاربعين من عمرها ، فكأنه اعلان الانتصار فلم يعد ﻻهلها حق المنع والاعتراض وﻻ لمجتمعها الاستنكار فهي بعمر يؤهلها للسفر والبعثة .

هكذا حزمت حقائبها سريعا لتلتحق مع زميلها الى مطار بغداد ومنه الى نيويورك في رحلة العمر .

اكتملت المرحلة الاولى من التدريب وجاء موعد الاجازة بعد ستة اشهر ، هي الان مخيرة بين العودة للوطن وبين السفر الى وﻻية امريكية اخرى للالتحاق بالجامعة .

حتى ذاك اليوم كان زميلها متعاون ، اما في لحظة الخيار فقد امتنع عن العودة واصرت هي على الرجوع بعد ان اخذ منها المرض والتعب مأخذا عظيما .

هكذا استقبلها الاهل وكانه فراق لسنوات ... كيف ﻻ وهي تبكي بكاءا مرا امام صورة والديها المرحومين ثم تختلي بنفسها طويلا ... سريرها القديم .. غرفتها الرطبة .. ﻻ احد يصدق انها عادت من امريكا الا عندما يرى الهدايا التي حرصت على اختيارها ، وعددها ، وكأنه طقس مقدس لإسعاد المقربين .

ايام العودة طالت بالمرض والتعب وملازمة البيت حتى جاء يوم اجتماع العائلة على الغداء بمناسبة العودة ... تفاجأ الجميع حينما قررت ان تبوح بما يشغلها ، وعلى رؤوس الاشهاد ... لم تبال بمن كان حاضرا ، صغيرا او كبير رجلا او امرأة ... هي تريد ان تبث ما كتمته طيلة الاشهر الماضية ، حيث صمدت بقوة وقررت العودة بقوة ايضا ، ضاربة بكل شيء عرض الحائط .

أ لست اكره الاعراف الاجتماعية ؟ انا الان احبها واقدسها !!!  اريد لجاري ان يتدخل ! اريد لإخي ان يمنعني السفر! اريد ﻻختي ان تمنعني من التبرج ! اريد لزملائي ان يتكلموا عني ! قولوا عني اي شيء ، ولكن ﻻ تسمحوا لي بالسفر مرة اخرى .

بهت الجميع وهي تكمل شقشقتها ... اي شهادة كنت ابحث عنها ؟ واين ؟ ومقابل ماذا ؟

لست متدينة كما تسموني ولكني ارفض ان اشترك بالسكن الطلابي مع رجل !

لست متدينة ولكن كنت اخجل ان اشترك بحمام مشترك !

لست معقدة كما يسموني ولكني كنت اخفض حجابي كي ﻻ ارى مشاهد فاضحة !

انهارت بالبكاء وسط ذهول الجميع ... تعلمت كيف اتعامل مع المواد الكيمياوية والاجهزة الحديثة ولكني لم استطع النوم ! غرفتي كانت في طابق وغرفة زميلي في طابق بعيد ... بابي يطرق من محتسي الخمر من مختلف الجنسيات !

هل انا ابنتكم ام لقيطة ؟ كيف سمحتم لي بالسفر ؟ كنت انام خلف الباب كل ليلة ارتجف مع كل صوت !!!

اين الحريات ؟ اين الامان ؟ بمن استنجد ؟ ﻻ علاقة لأحد بأحد !!!

حتى زميلي قد ترك سؤاله عني بالكاد كنت اراه !!!

جبت الشوارع ليس لشيء ! فقط  ﻻقضي الوقت ! أتجنب الوحدة ! حاولت التقرب لطالبات السكن ففشلت لانشغالهن بين متخذات اخدان ومثليين ، لم اصدق اين انا ؟ انا ﻻ اعرف كيف حال الاخرين ؟ انا اتكلم عن نفسي ... كان يوم قيامتي هناك !!! انظروا ... ورفع الجميع رؤوسهم اليها فاذا بها تخرج من جيبها كتاب مفاتيح الجنان بحجم الكف لكنه بغلاف متهالك لم يفهم احد من اين جاءت به وتحصلت عليه في امريكا ؟ حينها صرخت هذا كتابي الذي ظل على طاولة غرفتي عشرين سنة مرتبا ... اخذته معي ولم افارقه، ولم يسقط من يدي الا في حالة النوم او الاغتسال ، كنت اظنه سيدي الحسين (ع) لكثرة ما قرأت فيه عاشوراء قبل كل حركة ودرس وطعام ، كنت ارد به المتطفلين وطالبي الود المبتذل وصور الانحلال ... ثم رددت " ان الاسلام نظيف ... ان الاسلام نظيف " وسكتت ولم تزد .

  

لبنى مجيد حسين