في إحدى العربات الريفية جلست مع ستة أطفال ورضيع يبلسم قلوبهم بأبتساماته غير مدركٍ ذلك العالم الذي ولد فيه ، وهي جالسة في الجزء الخلفي من العربة مع إخوتها الصغار تراودها انعكاسات أشعة الشمس على أوراق الأشجار في الحقول عند مرورها فيها، لفتت انتباهها العلامات الممتدة على أعمدة الطريق الذي أسدل على جوانبه العشب الأخضر المفعم بربيع فصوله ، هاجرت إلى خيالها لتأخذ معها جرعة حسراتها المتكسرة وهي تستذكر ما فاتها من سنوات تلبدت بها أنوثتها بضباب الزمن المغبر لتلقي بالشفقة على نفسها وعلى أخوتها لما حدث لهم من تغيير في حياتهم ولتلك الصحوة القاسية بعد غفوة سلام باردة عاشت فيها اجمل اللحظات ..
نزلتْ دموعها بحرارة وتناثرت على وجنتيها وهي في ذلك الطريق فأسرعت بمسحها قبل أن يراها أحد خشية الانهيار أمامهم ، فهي مصدر النبض لقلوبهم ..وصمام الأمان لحياتهم ...
في تلك الأثناء وقفت السيارة في إحدى السيطرات ، حينما مد الجندي بصره وبدا عليه الغضب لكثرة المارة عليه ولمختلف ما تراه عيناه من قضايا من المارة فأنزل رأسه من خلال النافذة
وبدأ بطرح السؤال عليهم : إلى أين توجهكم ؟
فأجاب أحدهم وكان يجلس في الأمام: إلى المغتسل سيدي ..
فسمح لهم بالمرور وذلك لموقفهم المحزن ولإكمال الاستعدادات لدفن ما يحملونه من جسد قد كان هو السند الوحيد والمتكفل بهم
ومرتْ الأيام وقد ودّعتْ مدرستها إلى الأبد لتعلن عن افتتاح مدرسة في منزلها
تدرس هذا ، وتطعم ذاك ، وتحمم الرضيع ، وتلبس الآخر ثيابه ، وتسرع لتهدئة صراخ أخيها المذموم لأفعاله الوقحة التي لا يدرك معناها وغايتها ، غير أمور البيت الأخرى من تنظيف وطهي ، ثم تأخذ قسطاً من الراحة فتتسارع لهفتها لاعتناق ماضيها بأجمل الأخيلة المصورة لها ، لكن سرعان ما يقطع شريط تلك الرحلة الجميلة في ذكرياتها صوت أخيها المنادي أمي... أمي تعالي إلي ...
وبعد مرور زمن عليهم جاء الوقت لتشهد أحد انتصاراتها على الواقع المر الذي مرت به وهو زواج أحد أخوتها الأصغر منها سناً ، رفيقها بالدمع في كل الأوقات ، دموعها التي لم تستطع أن تتستر عليها في لحظتها تلك حينما جاء الوقت بأن يكمل نصف دينه وتكوين عائلة لنفسه فلم تستطع أن توقف انهمار الدموع من عينيها راغبة بالمزيد منه فرحاً لما قد وصلت إليه فيهم ..
يدخل ليأخذ عروسه من الحفل ويده تتبرك بيد امه .. اخته .. التي ربته وحملته بصغره ، فتعتلي المنصة وهو يقبل يديها ثم رأسها، وهي تحتضنته بدموعها
ثم تضع يد العروسه في يده ، ففي تلك اللحظة رفعتْ رأسها إلى الأعلى وهي تتأهب لاستقبال ضيف عزيز عليها والأجمل بهالته ، كان قد فارقها طويلا يأتي محتفياً برداء مخملي أبيض ارتسمت عليه ملامح أمها ، فقالت بصوتٍ حزين دقت له نواقيس الفقد ..
أمي لقد أكملت المهمة ..

 

ضمياء العوادي