عكرشة بنت الأطرش.. صدىً في ذاكرةِ الصَّهيل

 

في تخومِ التاريخ ثَمَّة نسوةٌ أرسينَ دعائمَ دورِ المرأة فيه, وأوقدنَ ملامحَ مسارهِ, ونفخنَ من إشراقات سيرتهنَّ في روحه، فكنَّ جوهره الذي لا يخبو, وشمسه التي لا تأفل, ومنبعه الذي لا ينضب, فالمسارُ الذي رسمنَه وسرنَ عليه عبّر عن إرادتهنَّ الواعية.. وهو المسار الذي يختط نفسه بنفسه, إنه مسار الحقيقة الذي أدَّينَه بإدراكٍ كامل, ووعيٍ تام, وصلابة لا تنثني, فوقفنَ إلى جانب الحق وحاربنَ الباطل ودافعنَ عن المبدأ فلبَّينَ نداء العقيدة تحت لواء البصيرة وهنَّ على أعلى درجات اليقين.
هُنَّ نسوة آلينَ على أنفسهنَّ قولَ الحق ولو كره المبطلون، ولم تأخذهنَّ في الله لومة لائم، فبقيت أصداءُ مواقفهنَّ يرددها الزمان والتاريخ ليسطع منها النموذج الأرقى للمرأة المسلمة المؤمنة حيث أخذن على عاتقهنَّ مسؤولية إكمال دور الرجل في مسيرة الإسلام والسير على النهج المحمدي الأصيل المتمثل بوصي الرسول (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فبقين على الوفاء لبيعته وتابعنه على نهجه في حرب أعداء الإسلام في معاركه الثلاث.
كنَّ على أعلى درجة من المسؤولية وهنَّ يرافقنَ أمير المؤمنين في ساحات الحرب يستنفرنَ عزائمَ الرجال ويحرضنَّ على قتال الفئة الباغية حرصاً منهنَّ على دينهنَّ بعد أن أصبح مهدَّداً بالخطر من قبل نفس أعدائهِ في الجاهلية الذين تزيّوا بزي الإسلام ولم تفارق الجاهلية قلوبهم فأوقد بنو أمية نار الحرب على الله ورسوله لينتقموا لقتلاهم ببدر وأحد ونفخ معاوية الرماد في الجاهلية الأولى ليعيد ترميم أصنامها.
عكرشة بنت الأطرش بن رواحة من النساء اللواتي ضربنَ مثالاً رائعاً وقدَّمنَ انموذجاً أعلى للمرأة المسلمة المؤمنة الشجاعة الصلبة في دينها وعقيدتها في وقوفها المواقف المشرّفة وتحدّيها طغيان الباطل في سبيل إعلاء كلمة الحق ودحض الكلمة الأموية الباطلة.
رفعت سيفا في معركة صفين ووقفت بين المعسكرين وهي تخاطب جند العراق: (أيّها الناس... عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم، إنّ الجنة دارٌ لا يرحل من قطنها، ولا يحزن من سكنها، ولا يموت من دخلها، فلا تبيعوها بدار لا يدوم نعيمُها، ولا تتصرّم همومُها، فكونوا قوماً مستبصرين، إنّ معاوية دلف إليكم بعُجم العرب، غُلف القلوب ،لا يعرفون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله خافوا الله، ودافعوا عن دينكم، إن معاوية وأشياعه يريدون ضعضعة الدين، وإطفاء نور الحق فإياكم والتواكل فإن ذلك نقض عُرى الإسلام، وإطفاء نور الحق وإظهار الباطل وذهاب للسنة، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، يا معاشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على نياتكم، فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام وهم كالحمر الناهقة والبغال الشاحجة يضجون ضجيج البقر ويروثون روث العتاق)
فتشحذ هذه المرأة العظيمة بموقفها العظيم هذا هممَ الرجال قبل سيوفِهم.. تلك السيوف التي أمطرت الرعب في قلوب أهل الشام وفلقت رؤوس جيش البغي ووصلت إلى رأس الشيطان معاوية الذي كشف هو وابن العاص عن سوآتهما خوفاً منها وكادت هذه السيوف بقيادة الأشتر النخعي أن تستأصل الكفر والنفاق من جذوره لولا مكيدة ابن العاص الدنيئة في رفع المصاحف التي أثارت الأشعث وأصحابه من المنافقين.
ويكتب على هذه المرأة أن تبقى على قيد الحياة بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) فيستدعيها معاوية ليظهر عليها لؤم القدرة ويشمت بها.. لكن هذه المرأة التي عُرفت بالفصاحة والشجاعة أخرسته وجعلته يتراجع عما نوى عليه من الحط من قدرها ورؤية انكسارها... قال لها بعد أن ذكر حديثها: فكأني أراكِ على عصاكِ هذه وقد انكفأ عليك العسكران يقولون‏:‏ هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدراً مقدوراً فما حملك على ذلك ؟
لم تنكر عكرشة قولها وموقفها ولم تخش سطوة هذا الطاغية، بل قالت له وكأنها تحذّره إذا ألحّ في قوله فإنها ستواجهه بأغلظ من هذا القول فقالت له: يقول الله (عز وجل): (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)... وإن اللبيب إذا كرِه أمراً لا يحب إعادته.


محمد طاهر الصفار