في تخوم التاريخ ثمة نسوة من المؤمنات الفاضلات من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلن أرقى النماذج النسوية التي شهدها التاريخ، فلم يغيِّرنَ ولم يبدلنَ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم ينكثنَ بيعتهنَّ لأمير المؤمنين بالولاية، وتمسّكنَ بالقرآن الكريم، وحافظنَ على دينهنَّ الذي ارتضاه الله لهنَّ، ورضين بقضاء الله وحكمه، ولم يعصينَ الله (جل وعلا) حيث يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنً وَلا مُؤمِنَةٍ إذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراٍ أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخَيَرَةُ مِنْ أَمرِهِمُ وَمَن يَعصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلالا مُبينا)
هُنَّ نسوة آلينَ على أنفسهنَّ قول الحق ولو كره المبطلون، ولم تأخذهنَّ في الله لومة لائم، فبقيت أصداء كلماتهنّ يردِّدها الزمان والتاريخ والأجيال رغم بغي الظالمين وكيد الحاسدين ليسطع منها النموذج الأرقى للمرأة المسلمة المؤمنة.
الزرقاء بنت عدي من نساء الشيعة الفاضلات عُرفت بولائها الشديد وإخلاصها لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما عرفت ببلاغتها وفصاحتها وكانت ممن حضر صفين ولها مواقف في حث أهل العراق على الثبات في قتال الفئة الباغية، وبعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب معاوية من عامله على الكوفة إحضارها من الكوفة مع من كان يطلبهم ويطاردهم من وجوه الشيعة وأعيانهم ولما دخلت عليه قال لها: هل تعلمين لماذا أرسلت في طلبك ؟ فردت بجرأتها المعهودة التي لازمتها في جميع مواقفها: سبحان الله أنى لي بعلم ما لم أعلم وهل يعلم ما في القلوب غير الله.
فقال لها: بعثت إليك لكي أسألك عن مواقفك في صفين بين الصفين توقدين الحرب وتحرضين على القتال وعما حملك على ذلك ؟
فقالت: يا معاوية لقد مات الرأس وبتر الذنب. فقال لها: تحفظين كلامك في ذلك اليوم ؟ فقالت له (اتقاءً لشره): ما أحفظه. فقال: لكني والله أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين:
(أيها الناس إنكم في فتنة غشيتكم جلابيب الظلم، وحادت بكم عن قصد المحجة، يا لها من فتنة عمياء صماء لا يسمع لداعيها، ولا ينقاد لسائقها، أيها الناس: إن المصباح لا يضيء مع الشمس، وإن الكوكب لا ينير في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وان الزف ـ أي الريش ـ لا يوازي الحجر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، إلا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبراً يا معاشر المهاجرين والأنصار على المضض، فكأن قد التأم شعب الشتات، وظهرت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنى ؟ ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ولله عاقبة الأمور.
ألا إن خضاب النساء الحنّاء، وإن خضاب الرجال الدماء، ولهذا ما بعده والصبر خير في العواقب إيهاً إلى الحرب قدماً غير ناكصين ولا متناكلين فهذا يوم له ما بعده)
وكانت ملامح الغضب والحقد تلوح على وجه معاوية وهو يستعرض كلماتها أما هي فكانت مطمئنة ثابتة على موقفها فقال لها: يا زرقاء لقد أشركتِ علياً في كل دم سفكه.
فردت عليه ساخرة منه: أحسن الله بشارتك، مثلك من يبشر بخير ويسرّ جليسه، والله لقد سرّني قولك وأتمنى أن أكون كما ذكرت.
لم يكن معاوية يحسب لهذا الجواب حساباً فقد كان يظن أنها ربما تعتذر عن قولها لكنه فوجئ بهذه المرأة الأسيرة بين يديه وهي تتمنى أن يحشرها الله مع من قاتله معاوية وسفك دماء جنده وأصحابه وبمجلسه وأمام عينيه وعلى سمعه. فقال لها متعجباً: وقد سرّك ذلك ؟ قالت: نعم وأنى لي بتصديقه. فقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبكم له في حياته.

 

محمد طاهر الصفار